يوجد في طفولة كل شخص يوم يحدد حياته ومصيره. البعض يتذكره وآخرون يتعمدون نسيانه، بالنسبة لي هو منحوت في ذاكرتي؛ كانت فوسينانو حينها قرية زراعية صغيرة: الحقول الخضراء تتلاصق في الأفق تحت سماء لا نهاية لها وبين الحقول امتدت طرق لا تسير فيها غالبا سوى عربات تجرها الأحصنة. كانت شوارع القرية ترابية وغير ممهدة.
في ذلك اليوم سرت كثيرا. كنت مرهقا لكن في الوقت نفسه متحمسا لأن والدي أوجوستو وعدني بإحضار هدية إذا كنت جيدا في المدرسة. نظرت بعيدا، وبين خضرة الحقول والأشجار المليئة بالثمار شاهدت سحابة من التراب ترتفع في الأفق قادمة وخلفها سيارة. كان هو بالفعل.
هبط من السيارة وهو يخفي شيئا ما خلف ظهره. ابتسم لي وهو يظهرها.. إنها أول كرة قدم في حياتي. أمسكتها مبتسما.. كرة جديدة برائحتها الجلدية وحياكتها التي كانت تغطي منفذ الهواء استنشقت رائحتها بسعادة، وأمام أنظار والدي ركلتها نحو السماء وبدأت اللعب.
دائما ما حاولت اللعب بشكل جميل وبطريقة قادرة على عكس سعادة الحياة لتسلية الجمهور. تلك الدفعة الإضافية والرغبة في عيش الأحلام أعتقد أنني ورثتها من والدي لكي أعلمها للأجيال القادمة.
كان والدي دائما ما يقرأ جريدة (لاغازيتا ديلو سبورت).. الحقيقة أنه كان الوحيد في القرية الذي يشتري هذه الصحيفة. وفي عطلة كل أسبوع كان يقوم بمبادلتها مع بستاني يستخدم أوراق جريدة (كورييري) وصحف أخرى لبيع ثمار الفاكهة.
حين تلقيت كرتي الجلدية الأولى، كان الكل يرغب في اللعب معي. لم أتمكن أبدا من لمس الكرة مع كبار السن. لم أشعر بأي تسلية معهم. في إحدى المرات شعرت بالاستياء لدرجة أنني ركضت وأمسكت بالكرة ورحلت دون كلمة وداع. لماذا؟ لم أشعر بأي متعة، وفي النهاية هي كرتي! أن تكون البطل.. من يستحوذ على الكرة والملعب كان حينها وسيظل لاحقا شيئا متأصلا في طريقة لعبي. هذه هي هدية والدي.
أتذكر أنه في إحدى المرات حين كان عمري ثماني سنوات، كنت على الشاطئ مع عمتي، وفجأة نظرت بجانبها ولكنها لم تجدني. بحثوا عني بكل قلق في كل الممر البحري. تحول القلق إلى رعب.. أين الفتى؟ تذكرت عمتي أنني أحيانا كنت أقف منتبها أمام إحدى الحانات، لذا ذهبت إلى هناك.
كانت الحانة مكتظة للغاية فهناك كان يوجد التلفاز الوحيد بالقرية. كان التلفزيون الإيطالي يبث لأول مرة كأس العالم. كان عام 1954 وهناك فوق إحدى الطاولات كنت أقف بين دخان السجائر وصراخ الناس لأراقب بانتباه تلك الصور بالأبيض والأسود. لم أكن أتخيل أنه بعدها سأقود المنتخب الإيطالي في مونديال 1994.
لم أكن أحب الدراسة. هذا العالم لم يكن يعني لي شيئا. كان يبدو لي كأحد أشكال إهدار الوقت. كنت أجلس في الفصل لأنظر من النافذة لأتخيل مشاهدة لقطات من مباريات لكرة القدم في التلفاز. بعد انتهاء المدرسة بدأت في تعلم المحاسبة في لوجو، ولكن الأمر كان كارثة. لم يكن تركيزي أيضا منصب على المحاسبة، وبين الكثير والكثير من الأشياء شاركت في احتجاجات ضد التجارب النووية في الصين.
شعرت والدتي بالاستياء بسبب نتائجي وعدم اهتمامي بالدراسة. إذا كان هذا أحد الأخطاء التي ارتكبتها في حياتي فإنني اضطررت بعدها طوال أربعين أو خمسين عاما للانكباب على دراسة شيء آخر وهو الكرة.
كان الشباب في مثل سني بفوسينانو يراهنون على العمل في مجال الأحذية. كان هناك سعار لتحويل طابع القرية الزراعي إلى ذلك الصناعي أو القائم على الأعمال اليدوية. والدي كان شريكا في مصنعين للأحذية. كان يخرج في السابعة صباحا لعمله ثم يعود للمنزل لتناول شيء ما قبل أن يذهب مجددا للعمل ويعود للعشاء. في بعض الأحيان كان يعمل بالمنزل حتى الثانية صباحا. أعتقد أنني تعلمت منه ضرورة الإصرار والعناد.
من والدتي تعلمت أن الأحلام شيء ضروري والجنون أيضا. إذا ما كنت ترغب في الانتصار فلا بد من توفر الأحلام والموهبة وشيء من الجنون، صحيح أن نسبة العمل والدراسة والاجتهاد والتخطيط لا بد أن تكون الأكبر من أجل تحقيق النجاح، ولكن تلك العناصر الأخرى مهمة أيضا.
فوسينانو مثل أي قرية تتذكرها بأشخاصها، وأحدهم هو إيدو سيلفاني، الذي لم يكن معروفا فقط هناك بل في كل القرى الأخرى بصفته متخصصا في علوم النجوم والأوراق والأرواح. كان يقوم بتوقعاته بناء على برج كل شخص وتاريخ مولده. توجد الكثير من القصص التي تربطنا.
على سبيل المثال حين كنت أدرب بالاريا، توقع أننا لن نهبط، وبالفعل كان هذا ما حدث. لست شخصا أؤمن بالروحانيات ولكن كلام البروفيسور سيلفاني كان دائما ما يحدث، بل إنه وفي إحدى المرات توقع ألا تفارق الاصابات فان باستن طوال مسيرته، وفي النهاية اضطر المهاجم الهولندي للاعتزال وعمره 28 عاما.
أتذكر أيضا ما قاله عني في إحدى المرات "ساكي لديه صفات هتلرية ولكن نهايته لن تكون سيئة مثل هتلر. لقد صنع نفسه بنفسه ولديه قدرة كبيرة على الإقناع، ولكنه لن يظل لوقت طويل في كرة القدم".. صفات هتلرية! لا زلت أضحك من الأمر حتى الآن.
هناك أيضا السيد ألفريدو بيليتي. ربما هو أهم شخص في حياتي بعد عائلتي. كان بئرا للمعرفة وإداريا لقطاع الشباب بفريق باراتشا لوجو حيث بدأت أركل الكرة لأول مرة أثناء دراستي للمحاسبة.
كان بيليتي يصحبنا في الرحلات للعب المباريات. كانت أعمارنا تراوح بين 14 و15 عاما ولكن سيارته (1400 مولتيبلا) كانت تسع بشكل ما فريقا مكونا من 11 لاعبا. أتذكر أنه في إحدى المرات كان يجب عليه توصيل زوجته لمكان ما ورفضت أن يجلس أي شخص بجانبها في الأمام، وبشكل ما أيضا تكدسنا مثل أسماك السردين في علب الصفيح بالجزء الخلفي من السيارة.
كان الحديث عن كرة القدم أمر شبه دائم في فوسينانو. الكرة كانت حياة ولعبة وشغفا ومتعة. بدأت كمدافع مع باراتشا لوجو ولاحقا في فوسينانو. أنا أعسر ولكن كنت ألعب في الرواق الأيسر.
حين كنت في الـ18 و19 عاما كنت في منعطف طرق، كنت أعرف حدودي كلاعب؛ لم أكن جيدا للغاية ولكن كنت عنيدا. في تلك الفترة وقع أمر خطير: كنت أتقدم نحو العام الخامس في دراسة المحاسبة وبدأ مرض والدي، إذ إن كبده كان يعمل بـ5% فقط من طاقته. تركت لعب الكرة.
أثر مرضه كثيرا على حياتي: 18 ساعة عمل في اليوم. لم يكن سبق وأدرت مصنعا، ولكن حينها كنت أكثر شخص في العالم يهتم بالتفاصيل. لم أتوقف عن متابعة الكرة كمشجع وأنا أعمل. كان فريق فوسينانو الذي بدأت العمل فيه كإداري يسير بشكل سيئ، اتصل ألفريدو بيليتي بي ودعاني للعودة للعب.
لعبت في المباريات الأخيرة وأنقذنا أنفسنا، ولكن بدأ ظهري يؤلمني كثيرا. استمر الأمر في العام التالي لدرجة أن البعض تحدث عن حاجتي للخضوع لجراحة في العمود الفقري. توقفت عن اللعب وقلت لنفسي "إذا لم تكن قادرا على اللعب فلتصبح مدربا". بعدها بشهر بالفعل بدأت أتحدث كمدرب. قادني المصير نحو الطريق الصحيح.
في فوسينانو تعلمت مجموعة من أهم الدروس حول كرة القدم وهي وظيفة المدرب الحقيقية. إنها لا ترتبط فقط بتنظيم الفريق في الملعب بل تتضمن خلق اللعب واستغلال المواهب الفردية لكل لاعب.
أثناء تدريبي لفوسينانو كنت أعلم ما الذي أرغب فيه بالفعل: السيطرة على الملعب والفوز. يجب أن تستحوذ على الكرة وتكون البطل. في عامي الأول معهم فزنا ببطولة الدرجة الثانية (هواة) وأدركت مدى السعادة التي تنقلها الكرة للمشجعين. لا يوجد نوع من السعادة يخص مشجعي الدرجة الأولى والثانية: الإصرار الذي عملت به مع فوسينانو هو ذاته الذي استخدمته مع تشيزينا أو ريميني أو قطاع الشباب بفيورنتينا أو بارما أو ميلان أو المنتخب الإيطالي أو أتلتيكو مدريد أو ريال مدريد.
مررت بسعادة الانتصار ومرارة الهزيمة في كل المباريات التي قدت فيها فوسينانو مع الجماهير، وهي المشاعر نفسها التي تعرضت لها حينما قمت بتدريب أكبر الفرق على مستوى العالم.