30 ديسمبر 2021
غرام علي وانتقام منيرة (1 - 2)
"سيقتلك الحب يوماً ما، ستضيّعك نزواتك المتلاحقة، ستذهب بك غرامياتك نحو هلاك أكيد"، لم تكن كل هذه التحذيرات لتجدي نفعاً في إثناء نجم المجتمعات القاهرية المخملية عن "الحياة اللذيذة" التي اختارها لنفسه، وبالطبع لم يكن ليتصور هو ولا محذروه أنها لم تكن مجرد تحذيرات، بل كانت نبوءات تستشرف الهلاك الذي ذهب إليه باختياره.
وقتها، في عام 1922، لم يكن في البلاد من هو أكثر من الأمراء والبرنسات والبرنسيسات، لكنك إن كنت في تلك الأيام مطلعاً على ما يجري في أروقة القصور ومحافل "الطبقة الراقية"، ستعرف حين تسمع لقب "أمير الشباب"، أن المقصود به هو البرنس علي فهمي، الذي لم يكن من أفراد أسرة محمد علي الحاكمة لمصر والتي وجدت نفسها "مالكة" لها، لكن ثراءه الفاحش وزواج شقيقته الكبرى زينب من الأمير حيدر فاضل، جلب لعلي لقب (البرنس) غصباً عن أعين المعترضين على قانونية استخدامه لذلك اللقب، وبرضا الطامعين فيما يغدقه على كل من حوله، منذ أن تم رفع الوصاية عنه، حين بلغ الثامنة عشرة بعد عامين من موت أبيه الذي ترك له ولإخوته البنات أربعة آلاف وخمسمائة فدان وملايين الجنيهات.
كان علي قد تعلم من حياة أبيه المهندس العصامي والناجح وشديد البخل أيضاً، أن تكديس الثروة لن يفيدك في شيء إذا داهمك الموت، فقرر أن ينفق ما وسعه الإنفاق، حتى أنهم قدروا ما أنفقه خلال 4 سنوات فقط بعد موت والده بأكثر من مليون جنيه، وهو رقم مهول بمقاييس ذلك الزمان الذي جاد على عليّ بصديق مثالي اسمه سعيد العناني، أدرك أن طاقة القدر قد فُتِحت له، حين أصبح سكرتيراً للبرنس، فأثبت له كفاءته بتوريد أعداد مهولة من بائعات الهوى، فأصبح علي "منغمساً في كثير من الرذائل ومنهمكاً في الإسراف في قواه الجنسية، لكنه أساء استعمال وظيفته الجنسية، فحاز عدداً من الخليلات لا يمكن إحصاؤهن، مرتب الواحدة منهن لا يقل عن ألف جنيه في الشهر"، طبقاً لما قيل لاحقاً في شهادة موثقة، أمام محكمة لم يكن علي يتصور أنه سيجد نفسه ماثلاً أمامها ولكن بعد مصرعه.
في كتابه (مأساة مدام فهمي) الذي بدأت ولادته في عام 1992 كأحد فصول كتابه الجميل (حكايات من دفتر الوطن) الصادر عن سلسلة (كتاب الأهالي)، ثم تطور بعد ذلك إلى كتاب مستقل صدر قبل ثمانية أعوام عن دار الشروق، يروي لنا الأستاذ الكبير صلاح عيسى كيف كان علي فهمي ببذخه ونزواته وشطحاته نموذجاً مثالياً لتأكيد الصورة التي رسمها عدد من الكتاب والأدباء الأوروبيين لعالم الشرق السحري، حيث الرجال الأثرياء الأقوياء والبلهاء أيضاً، الذين يحبون المرأة الغربية حباً يفقدهم كل إرادة وحكمة أمام جمالها، وهي صورة أياً كان مدى دقتها، فقد جعلت مصر تمتلئ بالباحثات عن الثراء في قصور الأمراء والنبلاء والبرنسات، وكان من بين هؤلاء الأوروبية الحسناء مارجريت ألبير جوتيه التي لم يجمعها القدر بعلي خلال زيارتها الأولى لمصر في عام 1918، لكنها كانت بعد أربع سنوات فقط "قدره وقضاه المستعجل".
يصف صلاح عيسى مارجريت بأنها كانت "خضراء الدِمن" أو المرأة الحسناء في منبت السوء -طبقاً للتوصيف النبوي الشهير- بعد قراءته المستفيضة لشهادات من عرفوا مشوارها الطويل مع الفقر المدقع، الذي لم ينجح في النيل من جمالها، الذي تحول مع الوقت إلى سلاحها الوحيد في مواجهة الفقر. كانت مارجريت ابنة سائق فرنسي فقير لم يتمكن من شدة فقره من شراء الدواء لأمها التي ماتت بفعل مرض كان يمكن للأدوية أن تعالجه، سبقها إلى الدنيا شقيقان قتلا بعد ذلك في الحرب، وسبقهما إلى الموت بسنوات أصغر أشقائها، الذي دهمته سيارة مسرعة وهو في التاسعة من عمره، كان شقيقها يجري خلف كرة قذفتها له ماجي، أمام منزلهم في قرية قريبة من بوردو جنوب فرنسا، لتتعامل الأسرة معها كمتسببة في قتل أخيها، فيزداد إحساسها بالذنب، وتبدأ نوبات الصداع النصفي في مهاجمتها في ذلك الوقت المبكر من عمرها، ليتم إدخالها بعد ذلك إلى دير كاثوليكي انعزلت فيه وأغرقت نفسها في العبادة، حتى شاع الظن في أسرتها أنها ستترهبن وتقضي بقية عمرها في الدير، لكن باريس قضت على ذلك الظن الذي كانت مارجريت نفسها تعتقده أيضاً، لكنها حين زارت باريس لتقيم بعض الوقت لدى منزل قريبة لأمها، وقعت في غرام باريس وجوها الصاخب فلم تعد إلى منزل أسرتها ولا إلى الدير.
ارتبطت مارجريت بعلاقة عاطفية مع شاب إنجليزي من المترددين على منزل قريبة أمها، وعدها بالزواج وأرسل إلى الهند يطلب موافقة والده الذي كان يعمل دبلوماسياً هناك، وفي انتظار الرد أقامت معه في منزل أمه الفرنسية، وحملت منه منتظرة إتمام الزواج الأكيد، لكن رد الأب وصل بعد شهور، يطلب من ابنه اللحاق به في الهند ويرفض مشروع الزواج الذي سيعرقل خططه لابنه. لم يتمسك الحبيب النذل بها، وتركها تضع مولودتها التي أسمتها ريموندا، واختفى من حياتها، حتى علمت أنه قتل فيما بعد في الحرب العالمية الأولى. في العام التالي مباشرة تعرفت بأندريه ميلر الذي كان من أغنياء بوردو الكبار، لتعيش معه حياة سعيدة مترفة، وتسافر معه إلى مراكش ليسحرها الشرق الذي رأته لأول مرة، لكن حياتها مع أندريه لم تستمر سعيدة إلى الأبد كما تخيلت، حيث انتهت بالطلاق في صيف عام 1913.
لم تصبها العلاقتان الفاشلتان بنفور كامل من الرجال، بل على العكس توسعت علاقاتها العاطفية، التي حرصت فيها على أن تتعلم من أخطاء الماضي، فتظل الطرف الأقوى في علاقاتها المتعددة، حريصة على أن يكون لها دائماً حبيب أصلي وحبيب احتياطي، تلجأ إليه حين يملها الأصلي أو حين ترغب في ابتزاز عواطفه، وأصبحت معروفة بتوترها الشديد وتفننها في إثارة غضب شركائها حتى يصل الموقف إلى الاشتباك بالايدي ثم يهدأ فجأة، وهو نوع له زبونه بالطبع، لكنه جعل مارجريت كما يعتقد صلاح عيسى تتحول إلى مزيج معقد من امرأة سادية تتلذذ بتعذيب الرجال ومازوخية تتلذذ بتعذيبهم لها. وساعدها المبلغ الضخم الذي حصلت عليه من طليقها على الإقامة بشقة فاخرة بشارع هنري مارتان بباريس، لتظل قريبة من مجتمعات الطبقة الراقية، وتكون وجها مألوفاً في معارض المجوهرات وعروض الأزياء ومدرجات سباق الخيل، ولأنها كانت تدرك أن جمالها وجاذبيتها هما رأس مالها الوحيد في ذلك المجتمع، فقد حرصت على ألا تبتذلهما، بل حرصت على الإنفاق ببذخ عليهما، موقنة أن ذلك الاستثمار سيأتي بأرباح مهولة إذا تحلت بالصبر والعزيمة.
ثبت أن مارجريت كانت على حق في نهاية عام 1915، حين أوقعت صيداً ثميناً هو الأمير إدوارد ولي عهد إنجلترا وابن الملك جورج الخامس، فنشأت بينهما علاقة ملتهبة ومتقطعة، لم تدم طويلاً لكنها احتفظت منها بتذكارات مهمة أبرزها رسائل غرامية كانت خير عون لها خلال محاكمتها فيما بعد بتهمة قتل علي فهمي، لتدخل بعدها في سلسلة علاقات متعددة، ظلت فيها تنتقل من سرير ثري إلى سرير ثري آخر، مؤمنة أن الخمر يمكن لها أن تجعل أحضان الرجال كلهم واحدة، وكان يمكن لها أن تظل هكذا إلى الأبد، لولا أن أصيبت في عام 1918 بمرض خطير في صدرها، فنصحها الأطباء بالسفر إلى بلد دافئ، ولأنها كانت مفتونة بما تقرأه عن مصر وأثريائها الأسخياء، فقد قررت أن تذهب إليها بحثاً عن الدفء بكافة أنواعه، ولم يخب ظنها أبداً، فقد تنافس على نيل رضاها عدد من كبار الأثرياء المصريين والأتراك، ليفوز بمحبتها جنرال تركي هارب من حكم بالإعدام في اسطنبول، وهو ما لم تعرفه إلا بعد أن اصطحبها في رحلة إلى الصعيد، حيث بهرتها معابد الفراعنة وساهم هواء الصعيد الجاف وشمسه في التعجيل بشفائها.
عادت مارجريت بعد شفائها إلى باريس التي واصلت الانغماس في مجتمعها الراقي بقوة، وأصبحت من أبرز نجماته، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى قررت مارجريت أن تجرب حظها مع نوع من الزواج أكثر رفاهية وترفاً، فتزوجت من كهل فرنسي ثري هو المسيو شارل لوران لمدة عام، لكنها قررت ألا تقطع علاقتها بحياة السهر والفوضى والعلاقات المتعددة، فتحولت حياتها مع زوجها الغيور إلى جحيم، قررت الخروج منه بعد عام، لتقنع بدور الخليلة مع مليونير من تشيلي، لم يحتمل جموحها وفورانها، فدخلا في سلسلة من الأزمات العاصفة التي انتهت بإصابتها بالمرض الصدري من جديد، ليوجه لها صديقها الإيطالي اليهودي موصيري رجل البنوك دعوة لزيارة مصر في عام 1922، فتذهب باحثة على أمل الشفاء، وفتح صفحة جديدة مع الحياة كانت تتمناها صفحة سعيدة ودائمة.
حين جاءت مارجريت إلى مجتمع الصفوة القاهري الذي عرفته قبل أربع سنين، كان علي فهمي قد أصبح نجمه الأبرز وأمير شبابه، ولم يكن لفريسة سمينة كهذه أن تفلت من بين أيدي مارجريت الصائدة المحترفة، التي لم يأخذ منها علي فهمي الكثير من المجهود، فقد أصبحت خلال عشرة أيام فقط عشيقة علي فهمي، الذي أدركت أنها لن تستطيع منافسة بائعات الهوى اللواتي يتقلب بين أحضانهن، فجربت معه تقنيات أخرى، لم تحرك شهوته فقط، بل جعلت قلبه يتحرك لأول مرة، فرأى فيها منقذته من حالة الخواء الروحي التي كانت تنتابه بعد كل ما خاضه من تجارب عابرة.
ومع أن مارجريت كانت قد رأت الكثير من الأثرياء، إلا أنها لم تجد مثيلاً لثراء علي وبذخه، ولذلك تقول في مذكراتها عن تلك الأيام الهانئة: "رأيت أمامي حياة كالحياة التي قرأت وصفها في كتاب ألف ليلة وليلة، وسمعت كلاماً ينم عن هيام شديد، ويدل على ما تستطيع مثل هذه الثروة الطائلة أن تكفله لي من السعادة"، ولكي لا تكون تلك السعادة حلماً عابراً، قررت مارجريت أن لا تفلت علي من يدها إلى الأبد، وكان أول ما فعلته لكي تضمن ذلك، ألا تسلمه نفسها أبداً، وحين انهالت عليها هداياه القيمة التي كان من بينها إسورة من الماس بلغ ثمنها عشرة آلاف جنيه، وهو رقم مذهل وقتها، قررت أن الوقت قد حان لمقامرة أخرى، لو كسبتها ستكسب كل شيئ.
كان رهانها بسيطاً جداً ومعتمداً على خبرة طويلة بالرجال: شخصٌ مثل البرنس علي تعود على نيل كل ما يتمناه، لن يقبل أبداً بفكرة أن تستغني عنه امرأة. ولذلك سافرت مارجريت إلى باريس فجأة دون حتى أن تودعه، فجن جنونه وسافر خلفها مباشرة، وحين بحث عنها هناك عرف أنها عادت إلى عشيقها التشيلي، الذي لم يكن يعرف بدوره أنه كان طعماً لاصطياد حوت أكبر منه، لتدور بين الإثنين منافسة طاحنة على حبها، أنهتها مارجريت في الوقت الذي رأته مناسباً بالذهاب مع علي إلى فندقها لتستسلم لأحضانه لأول مرة، وحين فتحت عينها في الصباح، فتحتها على علبة مليئة بالأحجار الكريمة، بلغ ثمنها 35 ألف فرنك فرنسي، ليبدأ بعدها صيف حب ملتهب قضياه بين باريس وإسبانيا، رافضة أن تعود إلى مصر مع علي، لأنها لم تعد تبحث عن علاقات عابرة، بل ترغب في أن تستقر وتتزوج، وهو ما تدرك أن علي لن يفكر فيه، ولذلك ربما كان من الأفضل أن يذهب كل منهما إلى حاله.
ثقُلت مارجريت على الرز حتى استوى، ولم تبادر إلى مراسلة علي، مكتفية بالرد على رسائله بشكل مقتضب وجاف، حتى حين تحتوي رسائله على كلام يهيم شوقاً مثل هذا: "إن خيالك يلاحقني بإلحاح أينما اتجهت، فأراك يا شعلة حياتي محاطة بهالة من نور، وأرى رأسك مكللاً بتاج أعددته لك هنا، كي أتوجك به بمجرد وصولك إلى هذا البلد الجميل"، لكنها لم تقو على تجاهله، حين فوجئت به وقد كتب لها في إحدى رسائله أنه مريض وعلى وشك الموت، وكل ما يتمناه قبل موته أن يراها لدقائق، فسارعت بالذهاب إلى مصر قبل أن يضيع كل شيئ، لتكتشف أنها وقعت هذه المرة ضحية للعبة من علي، الذي وجدته واقفاً ينتظرها على رصيف الميناء الذي غطّاه بالزهور في مشهد مبهر، بينما انحنى لها أفراد حاشيتها فور نزولها من المركب في استقبال لم تر مثله في حياتها، وفي طريقها إلى سيارته همس في أذنها بأن أسرته وافقت على زواجها.
كانت مارجريت التي عرفت علي عن قرب تدرك أن مهمتها معه لن تكون سهلة، فها هي تقول في مذكراتها عن تلك الفترة: "كنت أعرف مقدار ما لي من سحر على هذا المخلوق الغامض الجميل الفاتن النازع إلى السيطرة رغم رقته البالغة وإحساه المرهف، والذي لم أعرف إلا فيما بعد أنه أشبه بالنمر الجميل المستكين الذي ينام عند قدمي فإذا أراد أن يداعبني لم يجد غير أظافره ينشبها في جسمي، ولكني توهمت أنني سأستطيع ترويضه"، وبالفعل كانت محقة في وصف اعتقادها بالوهم.
كانت والدة علي التي تملك بدورها ثروة ضخمة لا تقل عن ثروة ابنها، قد اشترطت على ابنها أن يتزوج مسلمة إذا أراد أن يحصل على رضاها، مهددة إياه بأنها ستحرمه من نصيبه من ثروتها إن لم يفعل، وهو تهديد أخافه لأن البحر بطبعه يحب الزيادة، وهو ما صارح به علي مارجريت التي بعد أن تزوجت علي مدنياً في 26 ديسمبر 1922، قررت أن تشهر إسلامها بعد خمسة عشر يوماً فقط، لتتخذ لنفسها اسم (منيرة) على اسم والدة زوجها، في حركة "بلدي"، ربما نجح ارتباطها بنطق الشهادتين في إخفاء رخصها لدى من يسهل استثارة حماسهم الديني، لكن مارجريت حاولت أن تضع في عقد الزواج شرطاً ينص على حقها في ألا تتحجب كالنساء المصريات، وينص أيضاً على حقها في تطليق نفسها، فنالت الشرط الأول بعد ممانعة من الأسرة التي لم تكن لديها مشكلة في كل ما يفعله ابنها من عربدة، طالما أنه لا يتزوج إلا مسلمة صالحة، لكن حبيبها الولهان واسرته الحذرة رفضا بشدة حقها في تطليق نفسها، برغم أنها قالت أنها اشترطت ذلك لكي لا تجد نفسها تعيش إلى جوار ثلاث "ضُرر"، وحين رأت منيرة الفرنسية أن موج الرفض أعلى منها، قررت ألا تضحي بكل شيئ ووافقت على إتمام الزواج، لتكتب في بداية شهر العسل إلى إحدى صديقاتها قائلة: "سأستمتع بحياة الأحلام مع ذلك الشاب الجذاب الذي يبدو غاية في الرقة والدماثة على كل وجه والذي يحبني ويعزني إلى ما لا نهاية".
لكن كيف نسيت مارجريت بكل خبرتها العريضة في الحياة ومع الرجال، أنه لا يوجد في هذه الدنيا شيء بلا نهاية؟
نكمل الحكاية غداً بإذن الله.
وقتها، في عام 1922، لم يكن في البلاد من هو أكثر من الأمراء والبرنسات والبرنسيسات، لكنك إن كنت في تلك الأيام مطلعاً على ما يجري في أروقة القصور ومحافل "الطبقة الراقية"، ستعرف حين تسمع لقب "أمير الشباب"، أن المقصود به هو البرنس علي فهمي، الذي لم يكن من أفراد أسرة محمد علي الحاكمة لمصر والتي وجدت نفسها "مالكة" لها، لكن ثراءه الفاحش وزواج شقيقته الكبرى زينب من الأمير حيدر فاضل، جلب لعلي لقب (البرنس) غصباً عن أعين المعترضين على قانونية استخدامه لذلك اللقب، وبرضا الطامعين فيما يغدقه على كل من حوله، منذ أن تم رفع الوصاية عنه، حين بلغ الثامنة عشرة بعد عامين من موت أبيه الذي ترك له ولإخوته البنات أربعة آلاف وخمسمائة فدان وملايين الجنيهات.
كان علي قد تعلم من حياة أبيه المهندس العصامي والناجح وشديد البخل أيضاً، أن تكديس الثروة لن يفيدك في شيء إذا داهمك الموت، فقرر أن ينفق ما وسعه الإنفاق، حتى أنهم قدروا ما أنفقه خلال 4 سنوات فقط بعد موت والده بأكثر من مليون جنيه، وهو رقم مهول بمقاييس ذلك الزمان الذي جاد على عليّ بصديق مثالي اسمه سعيد العناني، أدرك أن طاقة القدر قد فُتِحت له، حين أصبح سكرتيراً للبرنس، فأثبت له كفاءته بتوريد أعداد مهولة من بائعات الهوى، فأصبح علي "منغمساً في كثير من الرذائل ومنهمكاً في الإسراف في قواه الجنسية، لكنه أساء استعمال وظيفته الجنسية، فحاز عدداً من الخليلات لا يمكن إحصاؤهن، مرتب الواحدة منهن لا يقل عن ألف جنيه في الشهر"، طبقاً لما قيل لاحقاً في شهادة موثقة، أمام محكمة لم يكن علي يتصور أنه سيجد نفسه ماثلاً أمامها ولكن بعد مصرعه.
في كتابه (مأساة مدام فهمي) الذي بدأت ولادته في عام 1992 كأحد فصول كتابه الجميل (حكايات من دفتر الوطن) الصادر عن سلسلة (كتاب الأهالي)، ثم تطور بعد ذلك إلى كتاب مستقل صدر قبل ثمانية أعوام عن دار الشروق، يروي لنا الأستاذ الكبير صلاح عيسى كيف كان علي فهمي ببذخه ونزواته وشطحاته نموذجاً مثالياً لتأكيد الصورة التي رسمها عدد من الكتاب والأدباء الأوروبيين لعالم الشرق السحري، حيث الرجال الأثرياء الأقوياء والبلهاء أيضاً، الذين يحبون المرأة الغربية حباً يفقدهم كل إرادة وحكمة أمام جمالها، وهي صورة أياً كان مدى دقتها، فقد جعلت مصر تمتلئ بالباحثات عن الثراء في قصور الأمراء والنبلاء والبرنسات، وكان من بين هؤلاء الأوروبية الحسناء مارجريت ألبير جوتيه التي لم يجمعها القدر بعلي خلال زيارتها الأولى لمصر في عام 1918، لكنها كانت بعد أربع سنوات فقط "قدره وقضاه المستعجل".
يصف صلاح عيسى مارجريت بأنها كانت "خضراء الدِمن" أو المرأة الحسناء في منبت السوء -طبقاً للتوصيف النبوي الشهير- بعد قراءته المستفيضة لشهادات من عرفوا مشوارها الطويل مع الفقر المدقع، الذي لم ينجح في النيل من جمالها، الذي تحول مع الوقت إلى سلاحها الوحيد في مواجهة الفقر. كانت مارجريت ابنة سائق فرنسي فقير لم يتمكن من شدة فقره من شراء الدواء لأمها التي ماتت بفعل مرض كان يمكن للأدوية أن تعالجه، سبقها إلى الدنيا شقيقان قتلا بعد ذلك في الحرب، وسبقهما إلى الموت بسنوات أصغر أشقائها، الذي دهمته سيارة مسرعة وهو في التاسعة من عمره، كان شقيقها يجري خلف كرة قذفتها له ماجي، أمام منزلهم في قرية قريبة من بوردو جنوب فرنسا، لتتعامل الأسرة معها كمتسببة في قتل أخيها، فيزداد إحساسها بالذنب، وتبدأ نوبات الصداع النصفي في مهاجمتها في ذلك الوقت المبكر من عمرها، ليتم إدخالها بعد ذلك إلى دير كاثوليكي انعزلت فيه وأغرقت نفسها في العبادة، حتى شاع الظن في أسرتها أنها ستترهبن وتقضي بقية عمرها في الدير، لكن باريس قضت على ذلك الظن الذي كانت مارجريت نفسها تعتقده أيضاً، لكنها حين زارت باريس لتقيم بعض الوقت لدى منزل قريبة لأمها، وقعت في غرام باريس وجوها الصاخب فلم تعد إلى منزل أسرتها ولا إلى الدير.
ارتبطت مارجريت بعلاقة عاطفية مع شاب إنجليزي من المترددين على منزل قريبة أمها، وعدها بالزواج وأرسل إلى الهند يطلب موافقة والده الذي كان يعمل دبلوماسياً هناك، وفي انتظار الرد أقامت معه في منزل أمه الفرنسية، وحملت منه منتظرة إتمام الزواج الأكيد، لكن رد الأب وصل بعد شهور، يطلب من ابنه اللحاق به في الهند ويرفض مشروع الزواج الذي سيعرقل خططه لابنه. لم يتمسك الحبيب النذل بها، وتركها تضع مولودتها التي أسمتها ريموندا، واختفى من حياتها، حتى علمت أنه قتل فيما بعد في الحرب العالمية الأولى. في العام التالي مباشرة تعرفت بأندريه ميلر الذي كان من أغنياء بوردو الكبار، لتعيش معه حياة سعيدة مترفة، وتسافر معه إلى مراكش ليسحرها الشرق الذي رأته لأول مرة، لكن حياتها مع أندريه لم تستمر سعيدة إلى الأبد كما تخيلت، حيث انتهت بالطلاق في صيف عام 1913.
لم تصبها العلاقتان الفاشلتان بنفور كامل من الرجال، بل على العكس توسعت علاقاتها العاطفية، التي حرصت فيها على أن تتعلم من أخطاء الماضي، فتظل الطرف الأقوى في علاقاتها المتعددة، حريصة على أن يكون لها دائماً حبيب أصلي وحبيب احتياطي، تلجأ إليه حين يملها الأصلي أو حين ترغب في ابتزاز عواطفه، وأصبحت معروفة بتوترها الشديد وتفننها في إثارة غضب شركائها حتى يصل الموقف إلى الاشتباك بالايدي ثم يهدأ فجأة، وهو نوع له زبونه بالطبع، لكنه جعل مارجريت كما يعتقد صلاح عيسى تتحول إلى مزيج معقد من امرأة سادية تتلذذ بتعذيب الرجال ومازوخية تتلذذ بتعذيبهم لها. وساعدها المبلغ الضخم الذي حصلت عليه من طليقها على الإقامة بشقة فاخرة بشارع هنري مارتان بباريس، لتظل قريبة من مجتمعات الطبقة الراقية، وتكون وجها مألوفاً في معارض المجوهرات وعروض الأزياء ومدرجات سباق الخيل، ولأنها كانت تدرك أن جمالها وجاذبيتها هما رأس مالها الوحيد في ذلك المجتمع، فقد حرصت على ألا تبتذلهما، بل حرصت على الإنفاق ببذخ عليهما، موقنة أن ذلك الاستثمار سيأتي بأرباح مهولة إذا تحلت بالصبر والعزيمة.
ثبت أن مارجريت كانت على حق في نهاية عام 1915، حين أوقعت صيداً ثميناً هو الأمير إدوارد ولي عهد إنجلترا وابن الملك جورج الخامس، فنشأت بينهما علاقة ملتهبة ومتقطعة، لم تدم طويلاً لكنها احتفظت منها بتذكارات مهمة أبرزها رسائل غرامية كانت خير عون لها خلال محاكمتها فيما بعد بتهمة قتل علي فهمي، لتدخل بعدها في سلسلة علاقات متعددة، ظلت فيها تنتقل من سرير ثري إلى سرير ثري آخر، مؤمنة أن الخمر يمكن لها أن تجعل أحضان الرجال كلهم واحدة، وكان يمكن لها أن تظل هكذا إلى الأبد، لولا أن أصيبت في عام 1918 بمرض خطير في صدرها، فنصحها الأطباء بالسفر إلى بلد دافئ، ولأنها كانت مفتونة بما تقرأه عن مصر وأثريائها الأسخياء، فقد قررت أن تذهب إليها بحثاً عن الدفء بكافة أنواعه، ولم يخب ظنها أبداً، فقد تنافس على نيل رضاها عدد من كبار الأثرياء المصريين والأتراك، ليفوز بمحبتها جنرال تركي هارب من حكم بالإعدام في اسطنبول، وهو ما لم تعرفه إلا بعد أن اصطحبها في رحلة إلى الصعيد، حيث بهرتها معابد الفراعنة وساهم هواء الصعيد الجاف وشمسه في التعجيل بشفائها.
عادت مارجريت بعد شفائها إلى باريس التي واصلت الانغماس في مجتمعها الراقي بقوة، وأصبحت من أبرز نجماته، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى قررت مارجريت أن تجرب حظها مع نوع من الزواج أكثر رفاهية وترفاً، فتزوجت من كهل فرنسي ثري هو المسيو شارل لوران لمدة عام، لكنها قررت ألا تقطع علاقتها بحياة السهر والفوضى والعلاقات المتعددة، فتحولت حياتها مع زوجها الغيور إلى جحيم، قررت الخروج منه بعد عام، لتقنع بدور الخليلة مع مليونير من تشيلي، لم يحتمل جموحها وفورانها، فدخلا في سلسلة من الأزمات العاصفة التي انتهت بإصابتها بالمرض الصدري من جديد، ليوجه لها صديقها الإيطالي اليهودي موصيري رجل البنوك دعوة لزيارة مصر في عام 1922، فتذهب باحثة على أمل الشفاء، وفتح صفحة جديدة مع الحياة كانت تتمناها صفحة سعيدة ودائمة.
حين جاءت مارجريت إلى مجتمع الصفوة القاهري الذي عرفته قبل أربع سنين، كان علي فهمي قد أصبح نجمه الأبرز وأمير شبابه، ولم يكن لفريسة سمينة كهذه أن تفلت من بين أيدي مارجريت الصائدة المحترفة، التي لم يأخذ منها علي فهمي الكثير من المجهود، فقد أصبحت خلال عشرة أيام فقط عشيقة علي فهمي، الذي أدركت أنها لن تستطيع منافسة بائعات الهوى اللواتي يتقلب بين أحضانهن، فجربت معه تقنيات أخرى، لم تحرك شهوته فقط، بل جعلت قلبه يتحرك لأول مرة، فرأى فيها منقذته من حالة الخواء الروحي التي كانت تنتابه بعد كل ما خاضه من تجارب عابرة.
ومع أن مارجريت كانت قد رأت الكثير من الأثرياء، إلا أنها لم تجد مثيلاً لثراء علي وبذخه، ولذلك تقول في مذكراتها عن تلك الأيام الهانئة: "رأيت أمامي حياة كالحياة التي قرأت وصفها في كتاب ألف ليلة وليلة، وسمعت كلاماً ينم عن هيام شديد، ويدل على ما تستطيع مثل هذه الثروة الطائلة أن تكفله لي من السعادة"، ولكي لا تكون تلك السعادة حلماً عابراً، قررت مارجريت أن لا تفلت علي من يدها إلى الأبد، وكان أول ما فعلته لكي تضمن ذلك، ألا تسلمه نفسها أبداً، وحين انهالت عليها هداياه القيمة التي كان من بينها إسورة من الماس بلغ ثمنها عشرة آلاف جنيه، وهو رقم مذهل وقتها، قررت أن الوقت قد حان لمقامرة أخرى، لو كسبتها ستكسب كل شيئ.
كان رهانها بسيطاً جداً ومعتمداً على خبرة طويلة بالرجال: شخصٌ مثل البرنس علي تعود على نيل كل ما يتمناه، لن يقبل أبداً بفكرة أن تستغني عنه امرأة. ولذلك سافرت مارجريت إلى باريس فجأة دون حتى أن تودعه، فجن جنونه وسافر خلفها مباشرة، وحين بحث عنها هناك عرف أنها عادت إلى عشيقها التشيلي، الذي لم يكن يعرف بدوره أنه كان طعماً لاصطياد حوت أكبر منه، لتدور بين الإثنين منافسة طاحنة على حبها، أنهتها مارجريت في الوقت الذي رأته مناسباً بالذهاب مع علي إلى فندقها لتستسلم لأحضانه لأول مرة، وحين فتحت عينها في الصباح، فتحتها على علبة مليئة بالأحجار الكريمة، بلغ ثمنها 35 ألف فرنك فرنسي، ليبدأ بعدها صيف حب ملتهب قضياه بين باريس وإسبانيا، رافضة أن تعود إلى مصر مع علي، لأنها لم تعد تبحث عن علاقات عابرة، بل ترغب في أن تستقر وتتزوج، وهو ما تدرك أن علي لن يفكر فيه، ولذلك ربما كان من الأفضل أن يذهب كل منهما إلى حاله.
ثقُلت مارجريت على الرز حتى استوى، ولم تبادر إلى مراسلة علي، مكتفية بالرد على رسائله بشكل مقتضب وجاف، حتى حين تحتوي رسائله على كلام يهيم شوقاً مثل هذا: "إن خيالك يلاحقني بإلحاح أينما اتجهت، فأراك يا شعلة حياتي محاطة بهالة من نور، وأرى رأسك مكللاً بتاج أعددته لك هنا، كي أتوجك به بمجرد وصولك إلى هذا البلد الجميل"، لكنها لم تقو على تجاهله، حين فوجئت به وقد كتب لها في إحدى رسائله أنه مريض وعلى وشك الموت، وكل ما يتمناه قبل موته أن يراها لدقائق، فسارعت بالذهاب إلى مصر قبل أن يضيع كل شيئ، لتكتشف أنها وقعت هذه المرة ضحية للعبة من علي، الذي وجدته واقفاً ينتظرها على رصيف الميناء الذي غطّاه بالزهور في مشهد مبهر، بينما انحنى لها أفراد حاشيتها فور نزولها من المركب في استقبال لم تر مثله في حياتها، وفي طريقها إلى سيارته همس في أذنها بأن أسرته وافقت على زواجها.
كانت مارجريت التي عرفت علي عن قرب تدرك أن مهمتها معه لن تكون سهلة، فها هي تقول في مذكراتها عن تلك الفترة: "كنت أعرف مقدار ما لي من سحر على هذا المخلوق الغامض الجميل الفاتن النازع إلى السيطرة رغم رقته البالغة وإحساه المرهف، والذي لم أعرف إلا فيما بعد أنه أشبه بالنمر الجميل المستكين الذي ينام عند قدمي فإذا أراد أن يداعبني لم يجد غير أظافره ينشبها في جسمي، ولكني توهمت أنني سأستطيع ترويضه"، وبالفعل كانت محقة في وصف اعتقادها بالوهم.
كانت والدة علي التي تملك بدورها ثروة ضخمة لا تقل عن ثروة ابنها، قد اشترطت على ابنها أن يتزوج مسلمة إذا أراد أن يحصل على رضاها، مهددة إياه بأنها ستحرمه من نصيبه من ثروتها إن لم يفعل، وهو تهديد أخافه لأن البحر بطبعه يحب الزيادة، وهو ما صارح به علي مارجريت التي بعد أن تزوجت علي مدنياً في 26 ديسمبر 1922، قررت أن تشهر إسلامها بعد خمسة عشر يوماً فقط، لتتخذ لنفسها اسم (منيرة) على اسم والدة زوجها، في حركة "بلدي"، ربما نجح ارتباطها بنطق الشهادتين في إخفاء رخصها لدى من يسهل استثارة حماسهم الديني، لكن مارجريت حاولت أن تضع في عقد الزواج شرطاً ينص على حقها في ألا تتحجب كالنساء المصريات، وينص أيضاً على حقها في تطليق نفسها، فنالت الشرط الأول بعد ممانعة من الأسرة التي لم تكن لديها مشكلة في كل ما يفعله ابنها من عربدة، طالما أنه لا يتزوج إلا مسلمة صالحة، لكن حبيبها الولهان واسرته الحذرة رفضا بشدة حقها في تطليق نفسها، برغم أنها قالت أنها اشترطت ذلك لكي لا تجد نفسها تعيش إلى جوار ثلاث "ضُرر"، وحين رأت منيرة الفرنسية أن موج الرفض أعلى منها، قررت ألا تضحي بكل شيئ ووافقت على إتمام الزواج، لتكتب في بداية شهر العسل إلى إحدى صديقاتها قائلة: "سأستمتع بحياة الأحلام مع ذلك الشاب الجذاب الذي يبدو غاية في الرقة والدماثة على كل وجه والذي يحبني ويعزني إلى ما لا نهاية".
لكن كيف نسيت مارجريت بكل خبرتها العريضة في الحياة ومع الرجال، أنه لا يوجد في هذه الدنيا شيء بلا نهاية؟
نكمل الحكاية غداً بإذن الله.