العودة الدائمة إلى القرية.. "يا ريتا ما كانت هالبيعة"
ترتبط البدايات دائماً في ذهننا كفلسطينيين بالقرية. يمكن لشخص لم يعش في القرية ولا للحظة واحدة في حياته كلها، أن يعيش طوال عمره مشتاقاً لها. وفي ذهني، وربما في ذهن الفلسطينيين جميعهم، تحيل كل الخسارات إلى القرية أيضا.
ليس مستغرباً أن تسمع قصص الحصاد، وأمثال العشب والأرض والمطر، من عجوز هُجّرت من وسط أحياء حيفا أو عكا، من دون أن تسمع منها أية قصة عن السينما أو عن البحر.
المفقود والقديم بقي عالقاً في خيالاتنا بالقرية، بينما ارتبط الجديد بالمدينة، على الرغم من أن بعض المدن الفلسطينية قبل النكبة كانت مراكز حضارية وثقافية، لا تجاري التجمعات الحضرية الفلسطينية اليوم مدينيتها.
كنت أجري مرة مقابلة تاريخ شفهيّ مع مجموعة عجائز عاصرن النكبة، من أجل واجب في الجامعة. وكانت واحدة منهن تتحدث عن الاجتماع في البيدر، وأيام الحصاد، قبل أن أتنبه عندما سألتها جارتها: "ليش في حيفا كان في بيدر؟"، أنها لم تعش في قرية طوال حياتها.
الغالب الأعم من النساء الفلسطينيات اللواتي عاصرن النكبة، حتى لو كن في القدس أو نابلس أو رام الله، يلبسن الآن زي الفلاحات الفلسطينيات، ويمارسن سلوكهن. أفراد فرق الغناء الشعبي والرقص والدبكة، يلبسون جميعهم أزياء فلاحين، ويغنون أغانيهم أو يرقصون على أنغامها، وتراهم يحملون فؤوساً أو معاول أحياناً.
يعيش المهزومون ذاكرة لا تمثلهم، ولم يعشها أي منهم ربما. الهزيمة تعني عند الفلسطينيين دائماً رجوعاً إلى القرية. والهزيمة عندي بشكل شخصي عودة دائماً إلى هناك أيضاً.
من أيام الجامعة الأولى، كنت مع أية مشكلة بسيطة تواجهني، ألوم المدينة. وأشعر أنها السبب لأي خلل بسيط في حياتي، وأهرب إلى القرية. ومع كل امتحان قصير أرسب فيه، أو مع كل صبية جميلة لا تلتفت إليّ، وكل أستاذ قاس، أو زميل ثقيل دم، أتأكد أن المدينة ليست مكاناً مناسباً.
في القرية، كانت الأشياء أكثر وضوحاً. كان الشعر يعني المتنبي وعنترة، وفي أحسن الأحوال أحمد شوقي. (من أين جاء هؤلاء الملاعين بـ تي إس إليوت؟) وكانت المسرحيات ترتبط مباشرة بعادل إمام ودريد لحام. ولم يكن أحد سيسخر مني، كما فعل طالب غبي، عندما قلت إنني لم أقرأ حرفاً واحداً لشكسبير. هناك صرت جاهلا، مع أنني كنت أحفظ نصف قصائد عنترة، وعدداً لا بأس به من قصائد المتنبي.
في المدينة، لا يعلي أحد أصلا من قيمة الحفظ، ويصير قارئ الشعر وحافظه واحداً.
في المدينة، لا تستطيع إغواء الصبايا بالبلاغة، ولا تغريهن استعاراتك عن الطبيعة. هناك، حيث لا تكفي ضربات قلبك السريعة، لتتأكد أنك تحب.
لا نتذكر القرية، كما لا نتذكر حبيباتنا الأُوَل، إلا في المصائب والهزائم.
نعود إليها كمن يعتذر عن خطأ فادح، يكون متأكداً من ارتكابه مجدداً. لا نتذكر القرية عندما نكون أصحاء أبداً، ولا تعنينا بساطتها عندما تسير الأمور المعقدة على ما يرام.
تقول صباح في أغنيتها المعروفة، "عالضيعة" باختصار وتكثيف، كل ما يخطر في البال: جينا نبيع كبوش التوت، ضيعنا القلب ببيروت"، قبل أن تضيف بحسرة العارف وندمه: "يا ريتا ما صارت هالبيعة".
إيه "يا ريتا ما صارت هالبيعة" فعلا!