برزت في الآونة الأخيرة محاولاتٌ في بعض الدول العربية لمحاربة الفساد، وخصوصا أنه استشرى في بعضها، وبلغ حدوداً تزكم الأنوف. وحتى في دول عربية تعتبر متوسطة في معدل الفساد بالمقارنة مع دول العالم، جرت محاولاتٌ للحد من الفساد بشكل واضح، مثل الأردن. وهنالك منهجية واضحة لفعل ذلك. والفساد يقاس عالمياً بثلاثة مؤشرات أو معايير.
فهنالك مثلاً "دليل المخاطر العالمي حسب الدول"، والذي ينظر إلى عدد الشركات الموجودة في الدول من زاوية ما يُعرض عليها من الفساد، أو عرضها الرشوة على المسؤولين.
والثاني هو "المؤشر الانطباعي عن الفساد"، والذي تصدره منظمة دولية غير حكومية (منظمة الشفافية الدولية)، ويجري مسوحات تفصيلية بإجراء مقابلات مع عدد من المتعاملين مع كل دولة، ويعطي الردود التي تأتيه درجات تقديرية تحدّد مرتبة الدولة في قوائم الفساد الدولية.
والمؤشر الأخير يصدر عن البنك الدولي ضمن تقرير سنوي اسمه "مؤشر محاربة الفساد" للدول الأعضاء، ويستخدم معلوماتٍ كثيرة مستقاة من المؤشرين المذكورين.
ووفق الإحصاءات الدولية المنشورة، فإن قائمة أكثر عشر دول فساداً تضم ستا عربية، وأخرى سابعة كانت جزءا من بلد عربي، وهي جنوب السودان، والدول العربية هي: الصومال (1)، وسورية (3)، واليمن (5)، السودان (6)، ليبيا (7)، والعراق (10). أما الدول الأربعة الأخرى فهي جنوب السودان (2)، وأفغانستان (4)، وكوريا الشمالية (8)، وفنزويلا (9).
ويلاحظ من هذه القائمة التي تضم الدول الأكثر فسادا على مستوى العالم أن عدد الدول العربية ارتفع فيها عن السابق، حيث كان يقتصر على دولتين عربيتين، وتراجع عدد الدول الأكثر فساداً من غير العرب، فقد كانت القائمة تضم دولاً مثل نيجيريا، وبنغلادش، وأفريقيا الوسطى، وزيمبابوي، وإيران، وغيرها. لذلك، يكاد المرء يشكك في حيادية اختيار الدول.
وعلى الرغم من أهمية موضوع الفساد اقتصادياً، إلا أن علماء الاقتصاد لم يعطوه الأهمية الكافية، على اعتبار أن هذه قضايا اجتماعية وخلقية. وكان أول اقتصادي نبه لهذا الموضوع عالم الاقتصاد والاجتماع السويدي، جونار ميردال، الحائز على جائزة نوبل عام 1974.
ولكن البحث الأول في الموضوع صدر عام 1975 بعنوان "اقتصاديات الفساد"، للباحثين الاقتصاديين روز وَأكرمان في المجلة العلمية "The Journal of Public Economics". ومنذ ذلك التاريخ، صدر حوالي ثلاثة آلاف بحث تحمل عناوينها كلمة "الفساد".
وحيث أن الترابط وثيق بين درجة النمو الاقتصادي ومدى استشراء الفساد، وهي إلى الآن عكسية، فإن الفساد صار مؤشراً لعدد من المشكلات الاقتصادية في الدول الفقيرة، فانتشاره يؤدّي إلى إيقاف عملية المنافسة النافعة في الدول، ما ينعكس سلبياً على توزيع الموارد وتوجيهها إلى حيث تكون قليلة المردود والإنتاجية. وهي بذلك توطّن ظاهرة الاحتكار والتوزيع غير التنافسي، ما يحرم المجتمع من الوصول إلى مستوى الرفاه الأمثل.
والأمر الثاني أنه يسيء إلى توزيع الدخل والثروة إساءة بالغة، ويضعها بين أيدي من لا يستحقونها ولا يعرفون قيمتها الحقيقية. وهؤلاء قادرون على تجنب دفع ما عليهم من مستحقات، لأن الفساد يعطي لهم الفسحة ليشاركوا متّخذي القرار في قراراتهم التي ستحابيهم.
وهكذا تقل الموارد الموجهة إلى الخدمات الاجتماعية والأساسية، كالتعليم، والتدريب، والصحة، وتحسين الأجور، والتصدي لجيوب الفقر. والأمر الثالث أن البنى التحتية تنحصر في أحياء ومناطق معينة لخدمة الأثرياء وشركائهم من الحكام، خصوصا في الدول شحيحة الموارد.
وبسبب الفساد، ينضب التمويل المتاح لهذه المشروعات، فتصبح الدولة من حيث وفرة الخدمات منقسمة إلى جزأين: جزء متنعم بالماء والكهرباء والاتصالات وشبكات الصرف الصحي والخدمات البلدية، وقسم يعيش داخل أحياء فقيرة متردّية، حيث تنمو الجريمة والفساد.
بالطبع، فإن كثيراً من فوائض أموال الأغنياء تخبأ في ملاجئ آمنة، خشية من التغيرات عبر الانقلابات، وخوفاً على العملة الوطنية من الهبوط أمام العملات الرئيسة كالدولار، ولذلك لا تستفيد الدولة من وفورات المال لدى الأغنياء. وبدأ الأردن بمحاربة الفساد الذي ارتبط كثير منه بالمشروعات الكبيرة التي تقوم بها الحكومة، والممولة من جهات خارجية، أو بسبب التهريب والتهرّب من الاستحقاقات الضريبية.
وقد أنشأ الأردن مؤسسةً لمكافحة الفساد لها قوة ضابط العدلية، ولاحقت عدداً كبيراً من كبار الشخصيات، حتى لا يقال إن محاربة الفساد تقع على كاهل صغار موظفي الحكومة، وما زالت المؤسسة قائمة. ورأينا كيف حجز ولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، أثرياء من أقاربه وتجارا كبارا حتى يعيدوا جزءاً من الأموال التي أخذوها، كما قيل، بغير حق، وإن اتّهمت المحاولة بأن لها أهدافاً غير هدف التنظيف ومكافحة الفساد.
الفساد آفة كبرى. والدول العربية المقبلة على تنويع اقتصاداتها والنهوض بها على طريق التنمية والنمو المستدامين، لا تستطيع أن تفعل ذلك في ظل الفساد. ويبدو أن فوائد كورونا أكبر مما كنا نتوقع.