اجتاحت المظاهرات الأسبوع الماضي شوارع العاصمة المجرية بودابست، احتجاجاً على "قانون العبيد"، الذي تعمل الحكومة على إقراره، والذي يسمح بإجبار العاملين على العمل لساعات إضافية بأجر قد تصل إلى 400 ساعة سنويا.
ورغم البرودة الشديدة، حيث تكافح درجات الحرارة للصعود فوق الصفر في أغلب مدن أوروبا هذه الأيام، إلا أن حرارة الاحتجاجات فاقت كل شيء، وامتدت خارج العاصمة، في واحدة من الحالات النادرة للبلد الهادئ منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. لكن الحكومة لم تر في هذه المظاهرات إلا من تقول إنه المحرك الرئيس لها، وهو الملياردير المجري الأميركي جورج سوروس.
لم يكن الاتهام هو الأول للرجل العجوز، الذي اقترب من إتمام عقده التاسع، حيث أنه اعتاد على توجيه التهم إليه، ولم يكن هو الاتهام الأكبر، حيث سبق أن وصف بأكثر من ذلك، ويقول سوروس إنه اتُهِم بكل شيء، بما فيه أنه "عدو المسيح"، رغم ما عرف عنه من مشاركة في أعمال خيرية.
أول من أمس اختارت صحيفة فاينانشيال تايمز الملياردير والمستثمر الشهير البالغ من العمر 88 عاماً "شخصية العام" في العام 2018. وقالت الصحيفة إن اختيارها عادةً يكون بسبب إنجازات العام للشخصية المختارة، لكن في حالة سوروس، كان الاختيار بسبب ما يمثله الرجل من قيم، وأوضح محررو الصحيفة أن اختيار سوروس لشخصية العام الجاري يعكس إنجازاته المالية وقيمه الليبرالية.
وأشارت الصحيفة إلى أن القيم الليبرالية التي كشف عنها سوروس وقفت في وجه الشعبوية المتفشية حول العالم، وهو ما جعله هدفاً لإدارة الرئيس الأميركي "دونالد ترامب"، على حد وصف الصحيفة.
ولد سورس في بودابست عام 1930 لعائلة يهودية، وتمكن وعائلته من الهروب من الاحتلال النازي لبلاده بالاعتماد على أوراق هوية مزيفة، كما ساهمت عائلته في إنقاذ المئات من يهود المجر بنفس الطريقة. وفي العام 1947 دفع والده رشوة لأحد المسؤولين لمساعدته في الخروج من القبضة السوفيتية التي كانت تسيطر على البلاد وقتها.
هرب سوروس من الموت واتجه إلى لندن ليكمل تعليمه ويدرس الفلسفة ويتخرج، وحصل على الماجستير، من كلية لندن للاقتصاد، ليبدأ بعدها العمل في أحد البنوك التجارية بعاصمة المال الأولى في العالم في ذلك الوقت.
تنقل سوروس بعد ذلك بين العديد من البنوك في بريطانيا وأميركا، قبل أن ينشئ صندوقه للتحوط Hedge Fund، وكان اسمه دوبل ايجل Double Eagle، عام 1969.
بعدها بعام تم تغيير الاسم ليكون سوروس لإدارة الاستثمار، وكان يدير وقتها ما قيمته 12 مليون دولار من الأصول. وفي العام 2011، بلغت الأصول التي يديرها الصندوق 25 مليار دولار، مثلت وقتها أغلب ثروة الملياردير العجوز.
وفي فبراير من العام 2011، قُدرت ثروته بثمانية مليارات من الدولارات فقط، بعد تبرعه بأكثر من 32 ملياراً لمؤسسة المجتمع المفتوح Open Society Foundation، التي أسسها لدعم جماعات العمل المدني حول العالم.
وتقول المؤسسة إنها تدعم العدالة والتعليم والصحة العامة والإعلام المستقل. ولدى سوروس حالياً إسهامات في العديد من المنح لمنظمات وجامعات حول العالم، تقترب قيمتها من 12 مليار دولار.
لكن بعيداً عن الأعمال الخيرية ودعم المجتمعات المدنية، كانت لسوروس العديد من المغامرات التي صنعت له الأعداء، وأشهرها بالتأكيد كان ما فعله بالعملة الإنكليزية "الجنيه الاسترليني".
وبسبب دراسته للفلسفة، ابتكر سوروس نظرية للتعامل مع أسواق المال، يقول عنها إنها تعطيه علامات واضحة على الفقاعات في أسواق المال، والقيم الحقيقية للأوراق المالية.
واستطاع سوروس، باستخدام تلك النظرية في العام 1992، أن يتوقع انهيار الجنيه الاسترليني، فباع ما قيمته حوالي 10 مليارات دولار من الجنيهات الاسترلينية على المكشوف، لتنهار العملة تماماً، قبل أن يشتري ما باعه، محققاً أرباحاً صافية تجاوزت المليار دولار. وأطلق عليه وقتها "الرجل الذي كسر بنك إنكلترا المركزي".
وفي العام 1997، اتهم رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد سوروس بالتسبب في الأزمة المالية التي ضربت أسواق المال في جنوب شرق آسيا، وكادت تتسبب في انهيار اقتصاداتها الناشئة. إلا أنه بعد ما يقرب من عقد من الزمان، عاد ليعترف بأن الرجل لم يكن له دور فيما حدث، وكان ذلك حين التقيا في العام 2006.
وأمام منتدى دافوس الاقتصادي العالمي هذا العام، عكست كلمات سوروس بعضا مما يدور في عقول الكثيرين من حكماء عصرنا، بعد أن أوضح أنه يريد أن يقضي الجزء الأكبر من الوقت المتبقي له على مشكلة تؤرقه، ألا وهي صعود وسلوك منصات التواصل الاجتماعي وشركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة اللتان يغلب عليهما الطابع الاحتكاري.
وقال إن هذه الشركات تلعب في كثير من الأحيان دوراً مبتكراً وتحررياً، إلا أنها مع النمو الكبير الذي حققته، كما في حالة فيسبوك وغوغل، تحولت إلى احتكارات أقوى من أي وقت مضى، "حتى أصبحتا عائقاً أمام الابتكار، وتسببتا في مجموعة متنوعة من المشكلات التي بدأنا الآن في إدراكها".
ومرة أخرى كانت الفلسفة حاضرة مع سوروس، حيث أوضح أن الشركات تحقق أرباحها عادة عن طريق استغلال بيئتها، فتستغل شركات التعدين والنفط البيئة الطبيعية والجغرافية، وتستغل شركات ووسائل الإعلام البيئة الاجتماعية. وفي حالة شركات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، "يكون الأمر مشيناً، كونها تؤثر في كيفية تفكير الناس وتصرفهم دون أن يدركوا ذلك".
وأكد سوروس أن هذا الأمر سيكون له عواقب سلبية بعيدة المدى على تحقيق وعمل الديمقراطية، وبصورة خاصة على نزاهة الانتخابات.