وتعتبر منطقة الجزيرة السورية، الممتدة من نهر الفرات وحتى الحدود العراقية، السلة الغذائية للبلاد، لاحتوائها على آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الصالحة لزراعة المحاصيل الاستراتيجية من القمح والشعير والقطن وغيرها.
وأدت الحرائق إلى تراجع إنتاج القمح والدقيق والتأثير بشكل مباشر على اقتصاد البلاد والمنطقة الواقعة تحت نفوذ الإدارة الذاتية الكردية وقوات سورية الديمقراطية (قسد)، بالإضافة للأضرار الكبيرة على اقتصاد الناس الذين ينتظرون موسم الحصاد ليجنوا نتيجة تعب موسم كامل.
اتهامات متبادلة
وتزايدت نسبة الحرائق التي طاولت الأراضي الزراعية منذ الموسم الماضي، ولا سيما في محافظة الحسكة وريفها، وشملت حوالي 450 ألف دونم العام الماضي، حيث وجهت الاتهامات لـ"قوات سورية الديمقراطية" بالوقوف وراء افتعال هذه الحرائق، للإضرار بالمزارعين العرب الذين يشكلون غالبية في المنطقة، ودائماً ما كانت السلطات التي تشرف عليها "قسد" تنفي هذه الاتهامات، معللة ذلك بتضررها من تراجع محصول القمح بشكل رئيسي.
وشملت الحرائق هذا العام كذلك مساحات واسعة في كل من دير الزور والرقة، ومنطقة عين العرب بريف حلب الشمالي، ومعظم هذا المناطق واقعة تحت سلطة "الإدارة الذاتية"، حيث التهمت الحرائق حتى لحظة إعداد هذا التقرير أكثر من 7 آلاف هكتار من الأراضي المزروعة بمحصولي القمح والشعير على وجه التحديد، بحسب "هيئة الاقتصاد والزراعة شمالي وشرق سورية" التابعة لـ"الإدارة الذاتية"، وسط اتهامات متبادلة بين كل من النظام و"قسد" وفصائل المعارضة وتركيا بالإضافة إلى روسيا بالوقوف وراء تلك الحرائق وافتعالها.
وقال سلمان بارودو، رئيس الهيئة، إنهم في هذا العام اتخذوا إجراءات أكثر صرامة لمواجهة هذه الحرائق، مشيراً إلى أن ضعف الإمكانات لدى الهيئة حد من اتخاذ الإجراءات ذاتها في العام الماضي.
وووجه بارودو، في حديث لـ"العربي الجديد"، الاتهامات إلى فصائل المعارضة المتحالفة مع تركيا بالوقوف ورائها، إضافة للأسباب الطبيعية دون افتعالها بسبب ارتفاع درجات الحرارة ورمي مخلفات السجائر وغيرها، ووجود حرائق مجهولة السبب.
وبحسب "الهيئة"، فإن الحرائق التهمت حوالي 20 ألف دونم في ريف دير الزور، وحوالي 30 ألف دونم في رأس العين، و21 ألف دونم في عين العرب (كوباني) وريفها، بالإضافة لمساحات في كل من محافظتي الحسكة، ولا سيما في ناحيتي تل تمر وتل حميس، والرقة، ولا سيما في محيط مدينة الطبقة.
ونفت تركيا ضلوعها في عمليات إحراق الأراضي والمحاصيل الزراعية شمالي وشرق سورية، خلال تقرير نشرته وكالة "الأناضول" التركية الرسمية نهاية الشهر الماضي، حيث أشارت الوكالة إلى أن معظم الأراضي التي تعرضت للحرق تقع في مناطق ليس فيها وجود عسكري لتركيا أو حلفائها، بالإشارة لـ"الجيش الوطني" التابع للمعارضة.
وأشارت مديرية زراعة الحسكة التابعة لوزارة الزراعية والإصلاح الزراعي في حكومة النظام، إلى أن مساحة الأراضي المزروعة بمحصولي القمح والشعير بمحافظة الحسكة التي تضررت جراء الحرائق في الموسم الحالي بلغت 6600 هكتار.
وأشار مدير الزراعة في الحسكة رجب سلامة، خلال تصريح لوكالة أنباء النظام "سانا"، إلى أن "المساحة المتضررة من الحرائق توزعت على 2500 هكتار قمح و4100 هكتار شعير، متركزة في المنطقتين الجنوبية والغربية من ريف المحافظة"، موضحاً أن "الكميات التي أتلفت وخرجت من دائرة الإنتاج نتيجة الحرائق تقدر بنحو 5 آلاف طن قمح و7 آلاف طن شعير".
واتهمت وكالة "سانا"، التي نقلت تصريحات سلامة، تركيا بالوقوف وراء الحرائق، فيما يتهم الكثير من المواطنين والمزارعين في شمال وشرق سورية النظام بشكل مباشر بالتسبب في إحراق أراضيهم ومحاصيلهم، بسبب تراجع حصوله واستحواذه على المحاصيل.
وخلال الأسبوع الماضي، قضى شابان من أبناء قرية الأسدية بريف رأس العين، غربي الحسكة، خلال محاولتهما إخماد النيران التي اندلعت في أراضِ زراعية، ويخشى مراقبون أن تزيد الحرائق من أعداد الضحايا من المشاركين في عمليات الإخماد، بالإضافة إلى التخوف من وصول النيران إلى مساحات أكبر من الأراضي أو القرى المأهولة، ولا سيما في حالة الحرائق الكبيرة.
سلاح التجويع
ويشير الباحث والمحلل الاقتصادي يونس كريم، إلى أن التجويع هو أحد أهم أسلحة الحرب السورية لدى جميع الأطراف، والذي يجري استخدامه في أكثر من جانب، ومنها مسألة إحراق الأراضي والمحاصيل الزراعية ليس في شرق سورية وحسب، وإنما في أكثر من منطقة.
ولفت في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن من الأسباب عوامل طبيعية، من ارتفاع درجات الحرارة وعدم الاكتراث البشري بالإضافة إلى التأخر في عملية الحصاد نتيجة ظروف الحجر بسبب أزمة فيروس كورونا وعدم توفر الحصّادات والوقود بشكل كاف لتتم عمليات الحصاد بالسرعة المطلوبة، وهذه كلها تشكل ما نسبته 25% من أسباب الحرائق، بحسبه.
ويضيف كريم، وهو أحد أبناء المنطقة الشرقية، أن "الـ75% المتبقية من نسبة الأسباب فهي تذهب لتكون مفتعلة، بسبب التنافس سواء بين السلطات المتحكمة في المنطقة من جهة، أو التجار من جهة أخرى، وكلها لدفع الناس إلى بيع المحاصيل لصالح كل طرف مستفيد، علماً أن بيع المحاصيل يتم بالليرة السورية من قبل الفلاحيين، فيما يتم الاتجار بها بالعملات الأجنبية من قبل القوى أو التجار".
وحول دوافع السلطات المتقاسمة لجغرافية المنطقة الشرقية من سورية في افتعال تلك الحرائق، يبدأ كريم بـ"الإدارة الذاتية"، التي يشكل الأكراد غالبية قياداتها ومسؤوليها على المستوى المدني والعسكري.
ويشير إلى أن "الإدارة الذاتية تعتبر محصول القمح ورقة تفاوض استراتيجية بيدها سواء أمام النظام أو باقي الأطراف، ويدعم موقفها في مشروعية إدارتها لمنطقة الشرق، ولا تريد أن تخرج حبة قمح من يدها لأي طرف كان".
ويؤكد أن "دوافع النظام تعد أكبر بإرغام الفلاحين على بيع المحاصيل له بعد فقدانه لأكثر من نصف الكمية التي كان يحصل عليها في الأعوام الماضية.
وأضاف أن "الروس دخلوا في العامين الماضيين على خط افتعال الحرائق بعد ازدياد نفوذهم في المنطقة، في محاولة للاستحواذ على قمح الجزيرة واستخدامه كورقة ضغط سواء على (قسد) أو النظام على حد سواء، ولا يبرئ ذلك فصائل المعارضة المتحالفة مع تركيا".
وأكد كريم أن مردود المحاصيل يشكل رافداً هاماً لاقتصاد المليشيات أو القوى التي تحصل عليه، ما يجعل التنافس لكسب هذا المورد عنيفاً بهذه الدرجة، مشيراً إلى أن الضرر الذي سببته وتسببه الحرائق في المواد العضوية للأراضي الزراعية يجعلها تفقد القدرة على الإنتاج لعامين، ما يهدد الأمن الغذائي للمنطقة وسورية بشكل عام، محذراً من مجاعة عارمة في العام القادم إذا لم تتوقف الحرائق عن التهام الأراضي.
وفي العام الماضي، لم يستطع النظام سوى تأمين 600 ألف طن من القمح المستلزم للتموين، وهي نصف الكمية التي يحتاجها سنوياً من منطقة الجزيرة السورية (1.2 مليون طن)، علماً أن هذه المنطقة تنتج حوالي 2.5 مليون طن من القمح فقط، عدا عن الشعير ومحاصيل الحبوب الأخرى.
وكانت وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي التابعة لحكومة النظام، قد أعلنت رفع سعر شراء محصول القمح من المزارعين ليصل إلى مبلغ 400 ليرة سورية للكيلوغرام الواحد، تعديلاً للسعر السابق 225 ليرة سورية للكيلوغرام الواحد، بهدف ترغيب المزارعين ببيع محصولهم من القمح للنظام.
ويسيطر النظام على مساحة صغيرة داخل مدينة الحسكة، مركز المحافظة، فيما يدعم مجموعات شعبية في ريفها والمناطق التابعة "للإدارة الذاتية"، التي تسيطر على النسبة الأكبر من الجغرافيا شرقي سورية، في كل من الحسكة والرقة ودير الزور بعد طرد تنظيم "داعش" من هذه المناطق.
لكن خريف العام الماضي شهد خروج مساحة واسعة من سلطة "قسد" و"الإدارة الذاتية" تمتد بين مدينتي تل أبيض بريف الرقة على مسافة 110 كم وحتى رأس العين بريف الحسكة، بعمق حوالي 30 كم، بعد العملية العسكرية التركية المشتركة مع فصائل المعارضة السورية، ضد "قوات سورية الديمقراطية".