مثلما شكّل سقوط جدار برلين، وانهيار بنك ليمان برذرز، نقاط انعطاف مهمة في السياقات الفكرية وموازين القوى السياسية والاقتصادية العالمية، فإن جائحة فيروس كورونا المستجد ستترك آثار عميقة على الصعيد الدولي، بل أكثر منذ ذلك قد تكون هذه الجائحة هي القشة التي تقصم ظهر النظام العالمي بصيغته الأميركية الحالية ومعه مظاهر العولمة الاقتصادية المتلكئة والمنحازة في نظر الكثير.
وبقدر ما جسّد فيروس COVID-19 أسوأ ما في العولمة بسبب سرعة انتشاره وتعميم الخوف والقلق ورفع حالة الاستنفار في المستشفيات حول العالم، فقد دفع بالقدر ذاته الدول إلى غلق حدودها ووقف السفر منها وإليها ودفع الأفراد إلى الانكفاء في بيوتهم، وهذه طبيعة بشرية تمليها غريزة البقاء في مواجهة المخاطر والأوبئة والكوارث، وهو ما يعني أن هذا الفيروس التاجي سيقودنا في النهاية إلى عالم سيكون أقل انفتاحاً وأقل ازدهاراً وأقل حرية، وهذا أمر حتمي عندما تجمع المعادلة بين فيروس قاتل وتخطيط غير ملائم وقيادة غير كفؤة تهاوت صورتها ومصداقيتها لدى الشعوب.
وعندما ننظر إلى الصورة في السياق التاريخي الحديث وضمن محددات قوة وضعف الأمم، يمكننا أن نفهم حالة القلق التي تعتري صانعي السياسات والقرار في الولايات المتحدة، وعبر عن ذلك صراحة هنري كيسنجر في صحيفة وول ستريت جورنال عندما قال إن الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم الآن بسبب الوباء الفتاك، أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جندياً في فرقة المشاة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، حيث يسود الآن كما قال الشعور نفسه بالخطر الوشيك الذي لا يستهدف أي شخص بعينه، وإنما يستهدف الكل بشكل عشوائي ومدمر.
وقبل أيام قليلة نشرت الصحافة الأميركية ما قاله الرئيس السابق جيمي كارتر لدونالد ترامب خلال لقائهما الأخير. قال له: "أنت تخشى أن تسبقنا الصين، وأنا أتفق معك. لكن هل تعرف لماذا الصين في طريقها لتجاوزنا؟ لقد قمت أنا بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بكين سنة 1979. منذ ذلك التاريخ، هل تعلم كم عدد المرات التي خاضت فيها الصين الحرب ضد أيٍّ كان؟ ولا مرة !! أما نحن، فقد بقينا في حالة حرب دائمة. الولايات المتحدة هي البلد الأكثر ولعاً بالحروب في تاريخ العالم، بينما تستثمر الصين مواردها في مشاريع مثل سكك الحديد للقطارات فائقة السرعة بدل تخصيصها للنفقات العسكرية.
لقد أهدرت الولايات المتحدة الأميركية نحو 5000 مليار دولار على الحروب والإنفاق العسكري وعلى أكثر من 725 قاعدة عسكرية حول العالم، اعتقاداً منها أن القوة العسكرية هي التي تعزز هيمنتها، في حين أدركت الصين مبكراً أن ميزان القوة سيرجح لصالح القوة الاقتصادية ولتكنولوجيا الاتصالات وخاصة الجيل الخامس الذي سيعيد صياغة المفاهيم الاقتصادية والمعاملات التجارية والمالية، وهي المعركة التي كسبت رهانها بكين.
حاول ترامب أن يوقف الزحف الصيني بكل الوسائل الممكنة عبر إشعال حرب تجارية ضارية معها، مخالفاً كل قواعد التجارة الحرة، لكنه أخفق بشكل ذريع في ردم هوة العجز التجاري، وهو اليوم أمام حالة الفزع الشعبي من الوباء وخوفاً على حظوظه الانتخابية يتخلى صاغراً عن كبريائه وغطرسته الطاغية ليستنجد بالصين في مواجهة الوباء وتزويده بوسائل الوقاية وأجهزة التنفس الاصطناعي!
هنالك من يرى أن الصين قد تكون هي الرابح في هذه "الحرب العالمية الثالثة" كما كانت الولايات المتحدة هي الفائز الوحيد في الحرب العالمية الثانية بعد فرض هيمنتها على الدول الأوروبية المنهارة عبر "مشروع مارشال" الذي كان في ظاهره إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وفي باطنه نقل مركز القرار العالمي من القوى التقليدية إلى الضفة الأخرى من الأطلسي، وبعد تلك الحرب انتقلت أوروبا من مرتبة الدول الاستعمارية الأوسع سيطرة عالمياً إلى مرتبة ثانوية بعد أن حلت الولايات المتحدة محلها كقوة استعمارية بأساليب متجددة، وكرست أميركا هيمنتها الدولية من خلال مؤتمر "بريتون وودز" الذي سمح برسم النظام الاقتصادي الدولي الجديد وإعطاء الهيمنة للدولار كعملة احتياط دولية.
لم تستبعد الصين نظرية المؤامرة واتهمت بشكل رسمي - في تغريدات لأحد المسؤولين بوزارة الخارجية - الجيش الأميركي باحتمال ضلوعه في إدخال فيروس كورونا إلى مدينة ووهان مركز الوباء، كما اتهمت الولايات المتحدة بكين أنها تستّرت على معلومات بشأن الفيروس.
وخلف هذه المعركة الكلامية مسألتان مهمتان: الأولى أخلاقية، إذ إن المتورط في إطلاق الفيروس ونشره بشكل متعمد أو غير متعمد سيتحمل تبعات آلاف الوفيات حول العالم، فضلاً عن تريليونات الدولارات خسائر حكومات وشركات كثيرة. والمسألة الثانية، هي أن من يتعافى أولاً ويساعد الآخرين على التعافي تقنياً ومالياً سيثبت أنه أجدر بقيادة العالم.
أما أنصار التيار الثاني وهم الغالبية من الكتاب والمفكرين الأميركيين، فيرون أن القوة الاقتصادية الصينية في تنامٍ فعلاً، لكنها لا تُهدِّد المكانة الأميركية عالميّاً، ولعل أبرز من يتزعم هذا التيار عالم السياسة الأميركي بجامعة هارفارد "جوزيف ناي" صاحب الكتاب الشهير الذي صدر قبل أربع سنوات "هل انتهى القرن الأميركي؟"، بالنسبة لأنصار هذا التيار، سيكون هناك تراجع نسبي في مقابل تقدم نسبي للصين، لكن عناصر القوة العسكرية والمالية ستبقى في يد الولايات المتحدة.
وأياً تكن وجهات النظر بشأن سرعة صعود الصين أو بطء سقوط القوة الأميركية، فإن الأكيد أن التفاعلات السياسية والاقتصادية التي أفرزتها أزمة كورونا ستعزّز سيطرة هذا الطرف أو ذاك، وستضاف من غير شك إلى الشرخ العميق الذي أحدثتها الأزمة المالية في عام 2008 في المنظومة المالية والاقتصادية، وهي الأزمة التي هزّت ثقة الأميركيين في متانة هذه منظومتهم الاقتصادية التي اكتشفوا أنها قائمة على الورق وحده من سندات وأسهم وديون، وليست قائمة على عناصر الاقتصاد الحقيقي المعتمد على الإنتاج والبعيد عن المضاربات، ولا شك في أن تداعيات تلك الصدمة على المجتمع الأميركي ومؤسساته وقادته ما زال مفعولها قائماً نفسياً ومالياً.
ويبدو أنه كما أعادت نتائج الحرب العالمية الثانية رسم موازين خريطة النفوذ الدولي بمنطق القوة العسكرية وفرض الهيمنة الاقتصادية فإن جائحة كورونا ستسرع في تشكيل معالم نظام دولي جديد قد يستغرق بعض الوقت، لكنه سيحسم الصراع في نهاية المطاف لصالح من يمتلك القوة الناعمة ممثلة في الاقتصاد والتكنولوجيا المتطورة.