الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصرّ على إحكام قبضته على قضيّة الأطفال المهاجرين وعلى اعتقالهم وفصلهم عن أهلهم. وقد قدّمت إدارته أخيراً مقترحاً يقضي بوقف العمل بـ"اتفاقية فلوريس" التي تراعي إلى حدّ ما حقوق الطفل في هذا السياق.
لا تتوقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتخاذ قرارات جائرة، والالتفاف على القوانين الأميركية وتغييرها لأهداف سياسية تستند غالباً إلى نظرة عنصرية لا تراعي حقوق الإنسان. وآخر تلك القرارات يتعلق بقضايا الهجرة، فتحاول إدارة ترامب تغيير عدد من القواعد المتبعة، الأمر الذي من شأنه التأثير سلباً على آلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين يدخلون إلى الولايات المتحدة الأميركية من خلال حدودها مع المكسيك، ويحاولون الحصول على لجوء. والقرار الأخير المقترح يقضي بمحاولة تمديد احتجاز الأطفال المهاجرين ليفوق عشرين يوماً، وهو الحدّ الأقصى المعمول به حالياً، على الأقل نظرياً. ويحاول القرار أن يجعل ترخيص مراكز الاحتجاز ومراقبتها من السلطة نفسها، ما يعني تضارباً في المصالح والمهام، بالإضافة إلى الفوائد المادية التي قد تعود على بعض الشركات الخاصة حال كانت إدارات تلك المراكز خاصة لا حكومية.
تنصّ القواعد الحالية، التي خُرقت مراراً في الفترات الأخيرة، على قيود تطاول مدة وظروف احتجاز القصّر من المهاجرين الذين دخلوا إلى الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية. أمّا القواعد الجديدة المقترحة فتشير إلى احتجاز القصّر في منشآت غير مرخصة من السلطات الرسمية. يُذكر أنّ المنشآت المستخدمة اليوم التي يعاني بعضها مشكلات كبيرة حتى في الظروف الحالية، تحظى بتراخيص من حكومات الولايات. وإلى جانب المشكلات المتعلقة بالحيّز المكاني، فإنّ القواعد الجديدة المقترحة سوف تسمح باحتجاز القصّر لمدّة تفوق عشرين يوماً قد تصل إلى أسابيع وأشهر، أي إلى حين بتّ محاكمتهم أو محاكمة أهلهم.
تدّعي الإدارة الأميركية الحالية أنّها، بسبب ما تعرف باسم "اتفاقية فلوريس" (1997)، اضطرت إلى فصل الأطفال عن ذويهم على الحدود المكسيكية الأميركية، لمحاكمة الأهل الذين وُجّهت لهم تهم دخول الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية، وذلك فيما يحاول هؤلاء تقديم طلبات لجوء. وتبقي السلطات المتخصصة الأهل في المعتقلات، وتفصل أطفالهم عنهم وتتعامل معهم على أنّهم "أطفال أجانب من دون مرافق"، وترسلهم إلى وزارة الصحة والخدمات الإنسانية. وبحسب "اتفاقية فلوريس"، فإنّ الحكومة مجبرة، بأسرع وقت ممكن، على البحث عن مكان لإقامة هؤلاء الأطفال داخل الولايات المتحدة والأولوية هي للأقارب. أمّا إذا أبقت الأطفال في منشآت، فلا بدّ من أن تكون تلك المنشآت أقرب إلى مراكز الرعاية لا السجون أو مراكز الاحتجاز، ناهيك عن ضرورة تقديم الحماية لهم. ويحاول الجمهوريون وقف تلك الإجراءات وسنّ القوانين التي تبقي الأطفال مع أهلهم، لكن في السجون بدلاً من إطلاق سراحهم على سبيل المثال، واستخدام سوار إلكتروني مثلما تقترح منظمات إنسانية. وتلك الطريقة الأخيرة من شأنها ضمان عدم فرارهم، وعدم اللجوء إلى احتجازهم المكلف مادياً، ناهيك عن تبعاته النفسية والجسدية، خصوصاً أنّه قد يستمر لأشهر إلى حين بت طلبات اللجوء.
في ثمانينيات القرن الماضي، رُفعت قضايا عديدة على خلفية طريقة تعامل السلطات الأميركية آنذاك مع القصّر الذين كانوا يصلون إلى الولايات المتحدة من دون ذويهم. واحدة من تلك القضايا، رفعتها منظمة الاتحاد الأميركي للحريات المدنية نيابة عن فتاة من السلفادور تُدعى جيني فلوريس، في عام 1985. وكانت فلوريس قد هربت من بلادها وقصدت خالتها التي تعيش في الولايات المتحدة، لكنّ السلطات الأميركية أوقفتها عند عبورها لأنّها لم تكن تحمل تأشيرة دخول. احتُجزت فلوريس مع قصّر آخرين، في الحيّز نفسه الذي كان يُحتجز فيه نساء ورجال بالغون غرباء عنهم. وراح القصّر يتشاركون مع البالغين أماكن النوم والحمامات، الأمر الذي عرّضهم للاستغلال بكلّ أنواعه، ولا سيّما الجنسي. بعد جولات عديدة في المحاكم ووصول القضية إلى المحكمة العليا عام 1993، صدر حكم قضائي يدعم موقف الحكومة الأميركية آنذاك، قضى بعدم إطلاق سراح هؤلاء القصّر وعدم السماح لهم بالعيش مع أحد أقاربهم في الولايات المتحدة، لكنّ سراحهم كان ممكناً فقط إذا عادوا إلى أهلهم. وفي عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، توصلت الإدارة الأميركية إلى اتفاق مع إحدى المحاكم الفدرالية، أهم ما فيه هو السماح بإطلاق سراح القصّر للعيش مع أحد أقاربهم في الولايات المتحدة. وإذا اضطرت السلطات لسبب ما احتجازهم بسبب عدم وجود عائلة أو قريب، يجب أن يوضعوا في مراكز ظروفها أقرب إلى مراكز الرعاية منها إلى المعتقلات والسجون. لكن ما تحاول الإدارة الأميركية الحالية القيام به هو التراجع عن تلك الإنجازات المتواضعة والبسيطة.
يقول ناشطون في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية لـ"العربي الجديد" إنهم يشعرون "بالقلق لأنّ الإدارة الأميركية وبدلاً من أن تحلّ المشكلة تعمد إلى تعميقها، محاولة هدم عقود من العمل على تحسين سياسات الهجرة التي تحوي مشكلات كثيرة. وهذه الإدارة تهدف إلى تمديد سجن الأطفال وذنبهم كله أنّ عائلاتهم حلمت بحياة أفضل لهم، كأيّ أب أو أم في هذا العالم". وتدّعي إدارة ترامب أنّ الاتفاقية تحوي ثغرات تجذب المهاجرين غير الشرعيين وتجبر السلطات على إطلاق سراحهم بعد عشرين يوماً إلى حين النظر في قضيتهم، الأمر الذي يدفع الاتحاد إلى توجيه انتقادات لاذعة إلى الإدارة والخطوات التي تنوي القيام بها.
في السياق، يشير متخصصون في مجال الهجرة إلى أنّ ثمّة بدائل ممكنة وأقلّ تكلفة، يمكن من خلالها التأكد من عدم فرار الأشخاص إلى حين محاكمتهم، من بينها السوار الإلكتروني الذي يُثبَّت حول الكاحل لتحديد مكان وجودهم. ومن جهتها، تقول المتخصصة الاجتماعية والنفسية لما خوري التي تعمل مع عائلات مهاجرة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الآثار النفسية والاجتماعية السلبية على الأطفال، خصوصاً أولئك الذين يهاجرون مع أهلهم بسبب الحروب أو الأوضاع الاقتصادية وغيرها لا يُستهان بها، إذ إنّ تبعاتها طويلة المدى حال استمرت حالة الفرار أو عدم الاستقرار". وتضيف أنّ "في مثل هذه الحالات اليوم، تكون التبعات أعظم، إذ إنّ الأطفال يُسجنون بعيداً عن أهلهم. وإن قدّر لهم أن يكونوا معهم، فإنّ ظروف تلك المنشآت صعبة للغاية وتتعارض مع حقوق الإنسان وحقوق العائلات". يُذكر أنّ ثمّة تقارير أشارت إلى اعتداءات جنسية على أطفال فُصلوا عن أهلهم أو احتجزوا في تلك المراكز، وفي واحدة من تلك الحوادث كانت الطفلة في السادسة من عمرها.