"هل تذكرين؟ كنّا في الصفّ الثاني المتوسّط، عندما أحضرتِ لي الربطة الخضراء. كان شعري قصيراً جداً حينها، غير أنّ ربطات الشعر تلك كانت من آخر الصرعات. أصررتُ على الحصول على واحدة، وحقّقتِ لي ذلك". تحاول المرأة الشابة التذكّر. لا تنجح. ليس الأمر مهمّاً. هو مجرّد تفصيل - أو واقعة - من بين تفاصيل - أو وقائع - أخرى كثيرة، يَذكرها بعضنا وتسهو عن بال بعضنا الآخر. المهمّ هو لمّ الشمل في هذه العشيّة.
تلك الوجوه المجتمعة هنا، كأنّها لم تتغيّر. كأنّما السنوات الطويلة لم تخلّف فيها أيّ أثر يُذكَر. الوجوه هي نفسها. ربّما يُخيَّل إلينا ذلك. ربّما هذا ما نشتهيه. هو الحنين إلى أيّام ولّت ما يجعل تلك الوجوه نفسها. هي رغبة في الخروج من هذا الزمان.. من هذا الواقع الذي ترهقنا تفاصيله وأحماله. أن تكون تلك الوجوه نفسها، يعني أن نعود إلى طفولة ومراهقة الأولى. ونفعل، من دون أن ندرك عودتنا تلك ومن دون أن نأتي بجهد يُذكَر. نعود ببساطة تشبه براءة كانت تطبعنا في ذاك الزمان.
نستعيد ذكريات ومزيداً من الذكريات. لا نتوقّف للتأكّد من مدى دقّة تفاصيلها. نسردها وتكثر الابتسامات، فيما تغرورق عيونٌ بالدموع. بالنسبة إلينا، هذه هي "الحقيقة".. هذا ما حصل. قد يفوتنا تفصيل ما، أو قد يُحوَّر آخر. تلك السنوات الطويلة كفيلة بذلك، غير أنّ الأمر ليس مهمّاً. لا نكترث له. في الواقع، لا نتنبّه لتفصيل فاتنا أو لآخر حُوِّر. نحن نستعيد أيّاماً ولّت، ولا شكّ في أنّ التصدّعات التي طاولتْ ذواتنا على مدى سنوات طويلة، خلّفت فيها أثراً ما.
في هذه العشيّة، لا وقت لاستحضار تلك التصدّعات ولا الآثار التي قد تكون خلّفتها في ذواتنا. هو تحليل اعتراضيّ لاحق، ليس إلا. في هذه العشيّة، نحن خارج الزمان.. خارج زماننا هذا. تصدّعات ذواتنا ويوميّاتنا المجهدة بتفاصيل "الراشدين" وأحمالنا - ثقيلة كانت أم غير ذلك - كلّها أمور لا تعنينا. نحن هؤلاء الصغار "القاصرين" الذين وثّقتْ صور احتفظنا بها براءة كانت لهم في يوم، وحفظتْ ذاكرة ما زالت تعيننا تفاصيل زمان حلو كان لهم في يوم. كأنّما نحن خلعنا رشدنا، وعدنا صغاراً بزيّ مدرسيّ موحّد كحليّ اللون، أو مراهقين بزيّ رماديّ اللون. بعضنا يُقرّ بنبذ هذَين اللونَين، غير أنّ لهما في هذه العشيّة "نكهة" أخرى. إلى تلك الوجوه التي لم تتغيّر، يأتي اللونان - المنبوذان من قبل البعض - ليتمّما مشهداً يصحّ وصفه بالعتيق. هو عتيق. الصور التي ما زال بعضنا يحتفظ بها، عتيقة وقد بهتتْ ألوانها، تماماً مثلما تآكلتْ طفولة ومراهقة كانتا لنا في يوم.
حلو لمّ الشمل هذا، يشبه ذاك الزمان الذي انقضى. لا يظنّننَ أحد أنّ في الأمر لعنة لزماننا هذا، غير أنّ حلاوة ذاك الذي تعيده وجوه بقيتْ على حالها، تختلف عن أيّ مستطاب آخر.