عندما يستهدف التوحّد أطفالنا، يحرمهم ليس ضحكهم فحسب، بل قدرتهم على التواصل أيضاً. وينعزلون. بهدف تصويب بعض الأفكار الخاطئة، تشرح الدكتورة هَنا عازار حاج شاهين المتخصّصة في الأمراض النفسيّة والعصبيّة للأطفال والمراهقين، هذا المرض لـ "العربي الجديد" بما تيسّر من معطيات حتى يومنا هذا.
وعازار حاج شاهين تعالج في عدد من مستشفيات بيروت، وهي كذلك أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف في بيروت.
التوحّد.. كيف نعرّفه باختصار؟
هو مرض نفسي صعب جداً، لا بل هو الذهان (الاضطراب العقلي) الأكثر صعوبة. بحسب التصنيف الدولي، هو اضطراب نمو شامل، أي أن المشكلة هي في النمو العقلي والذهني لدى الطفل. كان يُعتقد بأنه مرض نفسي، لكنه نفسي-عقلي. فالمشكلات تصيب مناطق محددة من الدماغ. والمتوحّد غير قادر على فكّ رموز سلوك الآخر والإشارات الانفعاليّة والعاطفيّة.
متى يمكن الحديث عن إصابة طفل بهذا الاضطراب؟
عارض التوحّد الأول هو عدم القدرة على التواصل الطبيعي. والمشكلة الأساسيّة ليست في أن الطفل لا يتكلم أو ينعزل عن البقيّة بل هو في عجزه عن التواصل، وليس عدم رغبته في ذلك كما يظنّ كثيرون. بالنسبة إلى الناس، من الطبيعي أن يتواصل الطفل مع محيطه. لكن ذلك خطأ. في الدماغ، منطقة تجعلنا نتواصل. لكن عند إصابتها بقصور ما، يعجز الصغير عن ذلك.
والاتصال يصبح صعباً جداً، ومستحيلاً أحياناً. فالطفل قادر على تكرار كلمات، لكن من دون أن تحمل عبارته معنى تواصلياً. ونسجّل هنا مشكلة في الاتصال والتفاعل منذ الأشهر الأولى.
الرضيع قادر على التواصل مع محيطه في سنّ مبكرة. قناة التواصل الأولى هي العينَين، فهو يرى ما هو حوله. ويبتسم. الابتسامة هي من أول نظم التواصل. ابتداءً من الأسبوع الثامن، يبدأ الطفل بتكوين قدرات التواصل.
هل هذا يعني أن التشخيص ممكن، مبكراً جداً؟
يمكن البدء بتشخيص التوحّد من الشهر الثالث أو الرابع من عمر الطفل. وذلك من خلال سؤال الأم عن تجاوبه معها. فإذا أجابت: "لم يكن ينظر إلي" أو أنه ينظر إلى ما حوله من دون أن يكون ثمة اتصال بصري مباشر، هذا يعني أن التشخيص إيجابي. إلى ذلك، الثغثغة (المكاغاة) هي من مؤشرات التواصل لدى الرضيع. هي تُعدّ باكورة التعبير اللغوي، ما بين الشهرَين الخامس والسابع من عمره. أما غيابها فأحد أعراض التوحّد.
ووضع الأم عندما لا ينظر إليها ولدها؟
في الشهر الثامن، يعاني الرضيع عادة من "القلق من الغريب". لا يسجّل ذلك لدى المتوحّدين، كذلك تشعر الوالدة بأنه لا يتعرّف إليها. لذا في البداية، كان الظنّ بأن الأم مسؤولة عن ذلك. لكن هذا ليس صحيحاً. المشكلة بيولوجيّة.
للأسف، عندما تشعر الأم بأن ابنها لا يتعرّف إليها، تكتئب. وكان ثمّة اعتقاد بأن الأم المكتئبة تعني طفلاً متوحّداً. وهذا مذكور في أطروحات وضعت قبل 15-20 عاماً. لكن الطفل متوحّد، لأنه كذلك. هذا أمر محدّد مسبقاً.
ما هي الأسباب إذاً؟
لا نعلم حتى اليوم ما هي الأسباب، لكنها متعددة العوامل. فإلى تلك البيولوجيّة، تأتي البيئيّة. ويتضّح أكثر فأكثر أن ثمّة عوامل أخرى، قد تكون عيوب خِلقيّة غير وراثيّة بالتحديد، ترتبط بتكوين بعض مناطق الدماغ.
إلى جانب غياب التواصل، ما هي الأعراض الأخرى؟
يمكن الحديث عن التكراريّة النمطيّة أو ذلك السلوك المتكرّر على نحو لا يتغيّر. كذلك، المتوحّد يصدر أصواتاً ويتعرّض لنوبات قلق عصابي، من دون أن ننسى الدوران حول نفسه أو فتل الأغراض.
من جهة أخرى، هو لا يحبّ التغيير ويلحظ أي تبديل ولو صغير لأنه يقلقه. وفي أحيان كثيرة، لا يمكن توقّع أفعاله. فهو له مثلاً تفضيلات غذائيّة. قد يتناول طبقَين محددَين على مدى أشهر كاملة، رافضاً أي طعام آخر.
أخيراً عاد الحديث عن مسؤوليّة بعض لقاحات الأطفال؟
لا نعلم. الفرضيات كثيرة. لكن ما من شيء مؤكد. وفي آخر مؤتمر عقد في برلين، كبار المتخصصين في طب الأطفال النفسي الأوروبيّون والأميركيّون، كانوا عاجزين عن الإشارة إلى سبب. نحن نقدّم فرضيات، لكن لا ننسى أن تلك التي كانت مطروحة قبل عشرات السنين لم تعد صالحة.
يُقال إن إصابة طفل في العائلة يهدّد الأشقاء المحتملين...
الاحتمالات قائمة، ومنها ما يشير إلى ما بين 20 و30%. لكن حتى لدى التوأمَين المتطابقَين، النسبة لا تتعدى 30%. فثمّة عوامل أخرى. إلى ذلك، التوحّد يصيب الذكور أكثر من الإناث. فلكل أربعة ذكور، أنثى واحدة. والسبب أيضاً ما زال مجهولاً. قد يكون ثمّة علاقة بالصبغيّة Y. لكن ما من معطيات أخرى.
غالباً ما يتأخر التشخيص. فما هي مسؤوليّة أطباء الأطفال؟
للأسف هي كبيرة. وعلى سبيل المثال، سألت والدة أحد المتوحدّين وهي ممرّضة، طبيب ابنها عن عدم تفاعل صغيرها معها إذ هو لا يضحك لها ولا ينظر إليها وسلوكه مختلف جداً عن شقيقه الأكبر. فأجابها: "أنت تتوهمين. أنت تعانين قلقاً". ولم يتمّ تشخيص الصبيّ إلا عندما بلغ من العمر عامَين وأربعة أشهر. كان الأمر واضحاً لي مذ دخل العيادة.
لذا يتوجّب على الأطباء أن يتحملوا مسؤوليتهم ويتنبهوا لتلك الحالات، أو أقله تحويلها إلى المتخصصين، قبل أن يتأخر الوقت. وطبيب الأطفال، كما يتخصص في الأمراض المعدية وطب حديثي الولادة، يجب أن يحصل على تدريب ولو بسيط للتمكّن من تشخيص اضطراب عقلي ما.
أحياناً، يُخلط التوحّد مع حالات أخرى؟
التوحّد هو ذهان، ما يعني أن الطفل غير قادر على إدراك محيطه وبيئته كما يفعل سواه. فخلطه بالتأخّر الذهني أمر لا يجوز. إذ هذا أمر مختلف كلياً. لكن التوحّد قد يترافق مع تأخر ذهني. كذلك، يُربط أحياناً باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة. وهذا أيضاً غير جائز، إذ في الحالة الثانية، يكون الطفل كثير النشاط ويتواصل مع الآخرين ويندمج معهم.
نشاهد اليوم حالات أكثر. هل يمكن القول إنها إلى تزايد أم الأمر يرتبط بالتشخيص؟
لا نعلم. في السابق كان المتوحّد يصنّف من بين أطفال يعانون من حالات أخرى، وكان كل شيء مختلطاً. أما اليوم فبدأ الوضع يتغيّر. يمكننا إجراء التشخيص ما إن يبلغ الطفل عامه الأول. لا يجب الانتظار طويلاً، حتى لا نتأخر في العلاج. لكن عادة التشخيص يأتي في الثالثة، عندما يقول الأهل إن الطفل لا يتكلم. فيرسل إلى متخصّصة في علاج النطق. عندها تكتشف هي أن حالة الطفل لا ترتبط فقط بالنطق، فيحوّل إلينا. لكن الوقت يكون قد تأخر.
علاج التوحّد يأتي متعدّد التخصّصات...
هو يشمل علاج النطق والعلاج النفسي-الحركي والعلاج النفسي. نحن في حاجة إلى حزمة نفسيّة تربويّة. المتوحّد غير قادر على التعلم كما بقيّة الأطفال. يجب أن تتوفّر مرافقة دائمة له لتدريبه على المهارات اليوميّة.
إلى ذلك، ليس هناك من علاج دوائيّ شفائيّ. لكن ثمة أدوية لتهدئة الهياج أو للتخفيف من بعض الاضطرابات السلوكيّة.
إلى حدّ اليوم، المتوحّد لا يُشفى. قد تتحسّن حالته إذا حظي بالمتابعة المناسبة، ويستطيع دخول المدرسة في بعض الحالات بحسب حدّة حالته، في عمليّة دمج.
لكن من دون علاج، لا إمكانيّة لذلك. هم لا يعلمون كيف يختلطون مع الآخرين. هم لديهم عالمهم الذي ينعزلون فيه.
إلى ذلك، تأتي متابعة الأهل وتفهم معاناتهم ومرافقتهم، لأن الأمر صعب بالنسبة إليهم. والمهمّ أن نساعدهم على التخلّص من عقدة الذنب.
ما هو وضع أطفال العائلة الآخرين؟
هم من دون شك في حاجة إلى متابعة. الأهل كثيراً ما يشعرون بأنهم ليسوا على ما يرام، وهم بالتالي لا يستطيعون إيلاء أطفالهم الآخرين الاهتمام اللازم. لذا لا بدّ من متابعة نفسيّة متخصّصة لهؤلاء، الذين وإن لم يعبّروا مباشرة إلا أنهم يتألمون بشكل ما.
* توعية لا بدّ منها
بالنسبة إلى الدكتورة هَنا عازار حاج شاهين، التوعية حول التوحّد الذي يصيب أولادنا ضرورة للمتخصّصين في علم النفس التربوي الذين يعملون في المدارس وكذلك لطواقم الحضانات، حتى يعرفوا أن هذا المرض ليس بغريب وقد يضطرون إلى مواجهته. من جهة أخرى، تشدّد على الحاجة إلى "تدخّل الدولة لتأمين تكلفة العلاج والمتابعة إذ هي باهظة جداً".