على عكس الجيل الشاب ما زالت العمتان الفلسطينيتان اللتان تعيشان في بيرو، وقد جاءتا إليها مع أسرتهما عندما كانتا طفلتين؛ إيلينا وسهام، متمسكتين بلغتهما العربية: "لا نشاهد في البيت سوى القنوات العربية، ونسمع الموسيقى والأغاني العربية، خصوصاً اللبنانية والفلسطينية"، بحسب ما تذكران لـ"العربي الجديد".
تنحدر أسرة إجحا من بيت لحم في فلسطين، وقد حرّفت العائلة إلى "غيا" لتسهيل نطقه بالإسبانية. عن بداية هجرة الأسرة، تذكر المرأتان الثمانينيتان أنّه يعود إلى عام 1890 عبر ثلاثة أخوال: "أكبرهما إلياس، عاد في 1911 ليتزوج في بيت لحم ويعود مع زوجته، وفي تلك السنة تحديداً ولدت أمنا، التي توفيت في عاصمة بيرو، ليما، عن عمر 101 عام، بعد سنة من احتفال بمئويتها بحضور جمع كبير من الفلسطينيين باعتبارها المعمرة الأكبر بين فلسطينيي ليما عام 2012".
قبل أكثر من ستين عاماً بدأت رحلة الأب والأم والأختين وأخويهما للالتحاق ببقية الأسرة المهاجرة قبلهم. وكغيره من فلسطينيي بيرو راح والدهما يعمل في صناعة النسيج "فبنى مصنعاً على قطعة أرض وصرنا جزءاً منه فيما الوالدة بقيت ربة منزل، تعلمنا الإسبانية وبقينا 30 عاماً في المصنع، حتى عام 1990 حين جاء الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري الذي ساهمت سياساته في تدمير اقتصاد بيرو، فاضطر الوالد لإغلاق المصنع وبعنا المبنى المكون من 3 طوابق لنخرج من المأزق" بحسب ما تذكر الشقيقتان.
يوضح بعض الفلسطينيين الذين ما زالوا يتحدثون العربية أنّ ما ميز جاليتهم في بيرو التي يصل تعدادها إلى نحو 20 ألفاً أنّها "جالية مستقلة في أعمالها، فلم يأتِ المهاجرون الأوائل ومن جاء بعدهم للعمل عند أحد، بل أصرّوا على امتلاك أعمالهم بأنفسهم من خلال العمل بداية في تسويق الملابس مشياً، قبل أن يتطوروا ليصبحوا مالكي صناعة النسيج وغيرها من الأعمال التي وظفت مئات البيروفيين". حتى اليوم تجد شركات تصميم فلسطينية كبيرة الحجم قائمة "بالرغم من منافسة المستورد الصيني"، بحسب ما يؤكد الصناعي الفلسطيني التسعيني جوزيف سيمون خميس، الذي أورث مهنته لابنه المهندس الذي يملك واحدة من كبريات شركات صناعة الأنسجة في ليما. وكان يتحدث إلى "العربي الجديد" أثناء تناوله الغداء مع بعض أصدقائه البيروفيين في المطعم الذي تملكه سهام وإيلينا.
من المثير في ليما، أنّ نساء من أصول فلسطينية، وبعضهن ولد في البيرو من أبوين ولدا أيضاً فيها تربطهن روابط عميقة بالطعام الفلسطيني، طبخاً وتسويقاً، ومع سؤال "العربي الجديد" عن سر العلاقة تلك، تقول الشقيقتان اللتان لم تفترقا منذ الطفولة: "معظم الأمهات والجدات المهاجرات كافحن إلى جانب الرجال بما استطعن، وكان الأمر صعباً في بلد كان قد بدأ يتشكل اقتصادياً، ولم يكن الفلسطينيون يشكلون جماعات منعزلة عن البيروفيين، كما المهاجرين الأوروبيين، بل كانوا أكثر انفتاحاً واندماجاً في الحياة العامة، حتى في أوساط سكان أميركا الأصليين في مدن أقصى الجنوب البيروفي مثل كوسكو، التي تحتضن مهد حضارة شعب الإنكا بآثارها الماثلة حتى اليوم، وأركبيا، وغيرهما من المدن النائية قبل أن تصبح ليما نقطة جذب". إذاً، فيما كان الرجال، ونحن نتحدث عن جيل شاب وفتيّ في ذلك الوقت، وبعضهم حديث العهد بالزواج، ينشغلون بتأسيس حياة للأسرة، شمرت النساء عن سواعدهن في إعداد المأكولات: "ذلك جزء من يوميات الجدات والأمهات اللواتي قدمن كثيراً من الأطباق إلى جانب الحلويات العربية". كانت بعض النسوة يعددن الطعام لبيعه لهؤلاء الذين أرادوا تذوق الحمص والطعام العربي من الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من جنسيات في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وإلى بعض من كان آتياً من دول المشرق العربي، عملاً أو زيارة".
في حكاية إيلينا وسهام ما يشبه تلك القصص: "بعد توقف مصنع النسيج قلت لأختي سهام دعينا نفتتح محلاً صغيراً نصنع فيه الحلويات ونتسلّى، لكنّها رفضت الفكرة تماماً، وبعد إصراري قبلت، فذهبنا نحو بداية بسيطة جداً في 1991، إذ توسع الأمر من حلويات إلى مأكولات فلسطينية أهمها ورق الدوالي (العنب) والمحاشي والحمص، أقله لنكون مستقلتين اقتصادياً ونكون معاً طوال اليوم" تقول إيلينا.
وفيما الحديث عن تلك البداية خطر في البال سؤال عن أولادهما، ليأتي جواب مشترك: "ليس لدينا أولاد، لم ننجب". تتابع إيلينا: "سهام لم تتزوج، إذ أخذتها الحياة في مساعدة الأسرة، فيما أنا تزوجت من شخص فلسطيني الأصل، وطلّقت، ولم أرزق بأطفال، لكنّنا بالنسبة لكثيرين من الجيل الشاب نعتبر والدتين لهم وينادوننا بالعمتين سهام وإيلينا". وما إن ذهبت سهام لتتحدث مع بعض الزبائن، حتى اغرورقت عينا إيلينا بدموع حزينة متمتمة بحسرة: "أخاف عليها إن متّ... هي توأم روحي بالرغم من فارق العامين بيننا".
اقــرأ أيضاً
لم تنفصلا عن بعضهما منذ كانتا في الثامنة والعاشرة من العمر، فبقيتا معاً وعاشتا معاً وعملتا معاً. قبل 16 عاماً حدثت نقلة أخرى في حياة العمتين سهام وإيلينا، إذ جاء ابن أخيهما بفكرة أن تتقدما بطلب افتتاح مطعم فلسطيني داخل النادي الفلسطيني في ليما، والمطعم الذي نتحدث عنه ليس مطعماً بسيطاً بل يصعب لكبره على سيدتين تسييره وحدهما، بحضور مئات المرتادين إلى النادي الراغبين في طعام على الطريقة المنزلية. تقول إيلينا: "وافقنا بعد تردد أن نخوض التجربة، فنحن أصلاً من أسرة لم تعرف الاستسلام، واتفقنا على أن نقدم أفضل المأكولات الفلسطينية، لكن أن تطبخ محاشي وتلفّ ورق دوالي وتعدّ منسفاً ومقلوبة وحمصاً وغيرها من جميع الأصناف ليس سهلاً أن نقوم به وحدنا، لذلك استعنّا ببيروفيين قبل 16 عاماً وعلّمناهم كيفية تقوير (حفر) الكوسا ولفّ ورق الدوالي، لكن من دون تدخلهم بالحشوة فنحن من يعدّها لتبقى محافظة على الطعم نفسه، ولم نقبل أبداً أن يعدّ أحد غيرنا الحلوى". المطعم الذي يحتل مساحة كبيرة في قاعات النادي الفلسطيني يرتاده الناس يومياً، وهو يحتضن أعراس وحفلات الفلسطينيين، ويتسع للمئات بطاولات أنيقة وبلمسة فلسطينية تزينها لوحة هنا وهناك، بمعمار عربي - إسلامي من تصميم وتنفيذ مهندسين فلسطينيين، وسط مساحة تبلغ نحو 60 ألف متر مربع وتنتشر في المكان متنزهات للأسر وأفران الطابون التي بناها مهاجرون من المزرعة الشرقية برام الله.
حين تسأل الزبائن عن طعام العمتين سهام وإيلينا يأتيك الجواب من طاولة يجلس عليها رجال ونساء من أصل فلسطيني لا يتحدثون العربية، بعد مرور 110 أعوام على هجرة بعض أسرهم: "كأنّك تجلس وتتناول طعاماً في فلسطين، هما الأفضل في كلّ بيرو لتقديم الوجبة الفلسطينية في جميع المناسبات، وتقدمان أفضل صورة عن المرأة الفلسطينية المكافحة في هذا المهجر بعد أكثر من مائة سنة على هجرة أسرتهما إجحا من بيت لحم".
يبقى الحنين إلى بيت لحم لدى الشقيقتين إجحا محركاً لكثير من المشاعر، فتذكر إيلينا: "حين يأتي عيد الميلاد وأشاهد القداس في كنيسة بيت لحم، أبكي فمنزلنا لا يبعد عن المكان أكثر من أمتار". ويظل الارتباط باللغة والثقافة العربية قائماً بالرغم من عقود من الهجرة: "الوطن يسري في الدم" عبارة ترددها الشقيقتان، مثلما يرددها شباب ولد أجدادهم في بيرو حين تسألهم لماذا وشموا خريطة فلسطين أو علمها أو كتبوا اسمها بالعربية على الأذرع.
تنحدر أسرة إجحا من بيت لحم في فلسطين، وقد حرّفت العائلة إلى "غيا" لتسهيل نطقه بالإسبانية. عن بداية هجرة الأسرة، تذكر المرأتان الثمانينيتان أنّه يعود إلى عام 1890 عبر ثلاثة أخوال: "أكبرهما إلياس، عاد في 1911 ليتزوج في بيت لحم ويعود مع زوجته، وفي تلك السنة تحديداً ولدت أمنا، التي توفيت في عاصمة بيرو، ليما، عن عمر 101 عام، بعد سنة من احتفال بمئويتها بحضور جمع كبير من الفلسطينيين باعتبارها المعمرة الأكبر بين فلسطينيي ليما عام 2012".
قبل أكثر من ستين عاماً بدأت رحلة الأب والأم والأختين وأخويهما للالتحاق ببقية الأسرة المهاجرة قبلهم. وكغيره من فلسطينيي بيرو راح والدهما يعمل في صناعة النسيج "فبنى مصنعاً على قطعة أرض وصرنا جزءاً منه فيما الوالدة بقيت ربة منزل، تعلمنا الإسبانية وبقينا 30 عاماً في المصنع، حتى عام 1990 حين جاء الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري الذي ساهمت سياساته في تدمير اقتصاد بيرو، فاضطر الوالد لإغلاق المصنع وبعنا المبنى المكون من 3 طوابق لنخرج من المأزق" بحسب ما تذكر الشقيقتان.
يوضح بعض الفلسطينيين الذين ما زالوا يتحدثون العربية أنّ ما ميز جاليتهم في بيرو التي يصل تعدادها إلى نحو 20 ألفاً أنّها "جالية مستقلة في أعمالها، فلم يأتِ المهاجرون الأوائل ومن جاء بعدهم للعمل عند أحد، بل أصرّوا على امتلاك أعمالهم بأنفسهم من خلال العمل بداية في تسويق الملابس مشياً، قبل أن يتطوروا ليصبحوا مالكي صناعة النسيج وغيرها من الأعمال التي وظفت مئات البيروفيين". حتى اليوم تجد شركات تصميم فلسطينية كبيرة الحجم قائمة "بالرغم من منافسة المستورد الصيني"، بحسب ما يؤكد الصناعي الفلسطيني التسعيني جوزيف سيمون خميس، الذي أورث مهنته لابنه المهندس الذي يملك واحدة من كبريات شركات صناعة الأنسجة في ليما. وكان يتحدث إلى "العربي الجديد" أثناء تناوله الغداء مع بعض أصدقائه البيروفيين في المطعم الذي تملكه سهام وإيلينا.
من المثير في ليما، أنّ نساء من أصول فلسطينية، وبعضهن ولد في البيرو من أبوين ولدا أيضاً فيها تربطهن روابط عميقة بالطعام الفلسطيني، طبخاً وتسويقاً، ومع سؤال "العربي الجديد" عن سر العلاقة تلك، تقول الشقيقتان اللتان لم تفترقا منذ الطفولة: "معظم الأمهات والجدات المهاجرات كافحن إلى جانب الرجال بما استطعن، وكان الأمر صعباً في بلد كان قد بدأ يتشكل اقتصادياً، ولم يكن الفلسطينيون يشكلون جماعات منعزلة عن البيروفيين، كما المهاجرين الأوروبيين، بل كانوا أكثر انفتاحاً واندماجاً في الحياة العامة، حتى في أوساط سكان أميركا الأصليين في مدن أقصى الجنوب البيروفي مثل كوسكو، التي تحتضن مهد حضارة شعب الإنكا بآثارها الماثلة حتى اليوم، وأركبيا، وغيرهما من المدن النائية قبل أن تصبح ليما نقطة جذب". إذاً، فيما كان الرجال، ونحن نتحدث عن جيل شاب وفتيّ في ذلك الوقت، وبعضهم حديث العهد بالزواج، ينشغلون بتأسيس حياة للأسرة، شمرت النساء عن سواعدهن في إعداد المأكولات: "ذلك جزء من يوميات الجدات والأمهات اللواتي قدمن كثيراً من الأطباق إلى جانب الحلويات العربية". كانت بعض النسوة يعددن الطعام لبيعه لهؤلاء الذين أرادوا تذوق الحمص والطعام العربي من الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من جنسيات في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وإلى بعض من كان آتياً من دول المشرق العربي، عملاً أو زيارة".
في حكاية إيلينا وسهام ما يشبه تلك القصص: "بعد توقف مصنع النسيج قلت لأختي سهام دعينا نفتتح محلاً صغيراً نصنع فيه الحلويات ونتسلّى، لكنّها رفضت الفكرة تماماً، وبعد إصراري قبلت، فذهبنا نحو بداية بسيطة جداً في 1991، إذ توسع الأمر من حلويات إلى مأكولات فلسطينية أهمها ورق الدوالي (العنب) والمحاشي والحمص، أقله لنكون مستقلتين اقتصادياً ونكون معاً طوال اليوم" تقول إيلينا.
وفيما الحديث عن تلك البداية خطر في البال سؤال عن أولادهما، ليأتي جواب مشترك: "ليس لدينا أولاد، لم ننجب". تتابع إيلينا: "سهام لم تتزوج، إذ أخذتها الحياة في مساعدة الأسرة، فيما أنا تزوجت من شخص فلسطيني الأصل، وطلّقت، ولم أرزق بأطفال، لكنّنا بالنسبة لكثيرين من الجيل الشاب نعتبر والدتين لهم وينادوننا بالعمتين سهام وإيلينا". وما إن ذهبت سهام لتتحدث مع بعض الزبائن، حتى اغرورقت عينا إيلينا بدموع حزينة متمتمة بحسرة: "أخاف عليها إن متّ... هي توأم روحي بالرغم من فارق العامين بيننا".
حين تسأل الزبائن عن طعام العمتين سهام وإيلينا يأتيك الجواب من طاولة يجلس عليها رجال ونساء من أصل فلسطيني لا يتحدثون العربية، بعد مرور 110 أعوام على هجرة بعض أسرهم: "كأنّك تجلس وتتناول طعاماً في فلسطين، هما الأفضل في كلّ بيرو لتقديم الوجبة الفلسطينية في جميع المناسبات، وتقدمان أفضل صورة عن المرأة الفلسطينية المكافحة في هذا المهجر بعد أكثر من مائة سنة على هجرة أسرتهما إجحا من بيت لحم".
يبقى الحنين إلى بيت لحم لدى الشقيقتين إجحا محركاً لكثير من المشاعر، فتذكر إيلينا: "حين يأتي عيد الميلاد وأشاهد القداس في كنيسة بيت لحم، أبكي فمنزلنا لا يبعد عن المكان أكثر من أمتار". ويظل الارتباط باللغة والثقافة العربية قائماً بالرغم من عقود من الهجرة: "الوطن يسري في الدم" عبارة ترددها الشقيقتان، مثلما يرددها شباب ولد أجدادهم في بيرو حين تسألهم لماذا وشموا خريطة فلسطين أو علمها أو كتبوا اسمها بالعربية على الأذرع.