الجوع والفقر والمرض عوامل أساسيّة تغذّي الحسّ النضالي لدى المواطن الذي يشعر أنه مقهور وأن ما من دولة تقف إلى جانبه وتدعمه في مطالبه. فيلجأ الى سبل أخرى لنيل حقوقه المشروعة.. ومنها التظاهر بحرق الأجساد.
عندما أقدم الشاب التونسي محمد البوعزيزي في ديسمبر/كانون الأول 2010 على إضرام النار بنفسه احتجاجاً على منعه من بيع الخضار والفاكهة في الشارع، ألهم البعض. ومذ ذلك الحين، انتشرت ظاهرة حرق الأجساد في البلدان العربيّة، وإن بنسب متفاوتة.
في لبنان مثلاً، شهدت التظاهرات المدنيّة عدداً من حالات الحرق إلا أنها لم تثمر أو تحقق أي نتائج على أرض الواقع. ولعلّ آخرها حالة محسن شهاب الدلباني الذي أضرم النار بنفسه في ساحة شتورا (البقاع) في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وتوفي في اليوم التالي.
حسين علام أحد مياومي مؤسسة كهرباء لبنان، أقدم في الأول من يوليو/تموز 2013 على إحراق نفسه أمام المؤسسة، بعدما ضاقت به السبل لتحقيق مطلبه ومطلب رفاقه المياومين بالتثبيت. بالنسبة إليه، "التظاهر ضدّ الظلم والطغيان بحرق الأجساد لا يعني اليأس والانكسار، لا بل هو دليل على قوة وكرامة".
يخبر أنه لجأ إلى التحرّك السلمي والتظاهر وقطع الطرقات وحرق الدواليب، إلا أن استخفاف المسؤولين بقدراتهم دفع به إلى تصعيد تحرّكه "النضالي"، كما يسمّيه. فأفرغ قنينة البنزين على رجلَيه وأشعلهما. يقول: "لم أشعر بأي ألم في جسدي. في تلك اللحظة، أحسست أنني بطل سيروي الجميع حكايته بعد وفاته. حكاية مناضل ضحّى بنفسه من أجل مستقبل آخرين بات مجهولاً بعدما هدّدوا بالصرف من العمل".
تلقت زوجة حسين الخبر، عبر شاشات التلفزة. هو خبر كاد يقضي عليها. وفي حين يتذكّر حسين اللحظات الصعبة، يتعهّد "بعدم الإقدام مجدداً على عمل مجرم مماثل يؤذي أعزّ الناس على قلبي.. زوجتي وأبنائي".
أمضى حسين شهراً و20 يوماً وهو يعاني في المستشفى. يقول: "أردت ان أكون عبرة للناس كما فعل البوعزيزي الذي أسقط الحكم الفاسد ومنح الشعب فرصة جديدة للعيش".
نجا حسين من الموت. أما مريم الخولي النازحة السوريّة التي أضرمت النار بنفسها في 25 مارس/آذار 2014، فقد تمكّن الموت منها. هي أحرقت نفسها أمام مقرّ المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مدينة طرابلس (شمالي لبنان)، خوفاً من الموت جوعاً.
ويعيد زوجها أحمد ظاهر إضرامها النار بنفسها إلى توقّف المفوضيّة عن تقديم مساعدات لبعض النازحين بعد وضع شروط جديدة، تنصّ على استثناء أي عائلة يكون بين أفرادها شخص يعمل. ويشير إلى أنها توجّهت مراراً وتكراراً إلى المفوضيّة لطلب المساعدة، لكن أحداً لم يسمعها.
وفي اتصال مع مكتب المفوضيّة في لبنان، أوضحت الناطقة باسمه دانا سليمان أنهم تكفلوا "بكل مصاريف علاجها وأن رفضها تقديم المساعدة قبل إضرامها النار بنفسها، يعود إلى معايير تعتمدها المفوضيّة في عملها. فثمّة عائلات كثيرة بحاجة إلى مساعدات ماديّة واجتماعيّة كعائلة مريم".
في ظاهرة حرق الأجساد، لا بدّ من التمييز بين نوعَين من الناس، بحسب ما يشدّد الأستاذ المتخصّص في علم النفس في الجامعة اللبنانيّة الدكتور فوزي أيوب. ويشرح أن فئة تحرق نفسها من أجل قضيّة وطنيّة إنسانيّة، وأخرى تتظاهر بحرق نفسها بسبب أمراض نفسيّة تعانيها. وهذه نوع من أنواع الانتحار الجسدي.
ويقول: "حسين الذي حاول إضرام النار بنفسه من أجل قضيّة نضاليّة بحسب تعبيره، كان هدفه أن يرسم لنفسه صورة البطل المناضل أمام جمهوره. لكن الصورة البطوليّة هنا تأتي سلبيّة، لأنه لا يؤذي نفسه فقط إنما أيضاً عائلته ومحيطه". ويوضح أن "القانون لم يحرمه حقه وإنما اشترط عليه امتحاناً لتثبيته. إذاً المطلب هنا ليس نابعاً عن حرقة وشعور بالقمع والغدر. فحسين يقول إنه ليس بحاجة إلى الوظيفة، بل يفعل ذلك من أجل زملائه. كذلك، فإن إحراق الجسد لم يتم فعلياً، وإنما اكتفى بإضرام النار في الجزء السفلي من جسده. وهذا دليل على أن ليس لديه النيّة في الموت من أجل القضيّة وأنه لن يعيد التجربة مرّة ثانية. وبالتالي، هذه الحالة يمكن توصيفها على أنها حادثة شغب لا أكثر، بهدف لفت الأنظار".
أما حالة مريم بحسب أيوب، فهي تختلف عن حالة حسين "كونها أكثر جديّة ويمكن وصفها بالصورة الإيجابيّة للعمل النضالي النابع من وجع وظلم وقهر دفع بالمرأة إلى اختيار طريق قاس لتنقذ أرواح أبنائها وآخرين يعانون من ظروف اجتماعيّة صعبة". يضيف: "وصلت مريم إلى مرحلة اليأس. لذا، قضيتها صادقة وعادلة. هي لا تعاني من الاكتئاب إنما لديها شجاعة كبيرة سمحت لها بالإقدام على هكذا فعل".
وعن حالة البوعزيزي في تونس، يقول أيوب إنها "عفويّة وتلقائيّة وبطوليّة بامتياز"، وشبهها بـ "العمليات الاستشهاديّة الوطنيّة".