يحكي القطري سعد إسماعيل الجاسم عن حياته بسعادة وفخر، هو الذي كان رياضياً وغوّاصاً قديماً اعتاد استخراج اللؤلؤ من البحر. كان ذلك منذ زمن بعيد
سعد إسماعيل الجاسم، هو أحد الشهود القلائل على مرحلة ما قبل النفط في قطر، ويُعرف بـ"غواص اللؤلؤ القديم" و"البهلوان"، لتفوّقه في بطولات كمال الأجسام ورفع الأثقال وغيرها من الرياضات. يتحدّث لغات عدة، منها الإنكليزية والإيطالية والهندية والأوردو (الباكستانية والإيرانية)، وقليل من الفرنسية.
داخل حانوت صغير في سوق واقف التراثي وسط العاصمة القطرية الدوحة، يجلس رجل ثمانيني يقابلك بابتسامة بمجرد دخولك إلى محله المليء بالأحجار الكريمة. خلف كرسيّه صورة له بالأبيض والأسود، حين كان رياضياً. يحكي لـ"العربي الجديد"، عن الغوص وأساليبه وأدواته ومراحله، وكل ما يتعلق بهذه المهنة التي أصبحت تراثاً قديماً.
يقول غواص اللؤلؤ القديم: "قبل اكتشاف النفط، لم يكن في قطر، كما في دول الخليج العربي، مصدر رزق. وكنا نعتمد على أنفسنا في تأمين معيشتنا من خلال التحطيب وصيد السمك في الشتاء. وفي الصيف، نغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ. نستقلّ مركباً بحرياً كبيراً مع النوخذة، أي قبطان السفينة، الذي يطيعه الجميع، والمجدمي، وهو رئيس البحارة المسؤول عن العمل في السفينة، والغيص، الذي يغوص في البحر لجمع المحار، ومساعده السيب، الذي ينتشل ما يستخرج من قاع البحر، والنهام، وهو المغني الذي يملك صوتاً جميلاً ويساعد البحارة في الاستمرار بالعمل والتجذيف من دون الشعور بالتعب أو الملل".
مدة الغوص تراوح ما بين 3 إلى 4 أشهر، ويتحول المركب إلى بيت كبير. في البداية، يرمي البلت، وهو قطعة من الرصاص تستخدم لاستخراج عيّنة من عمق البحر لاستكشاف نوعية القاع، سواء كانت صخراً أم رملاً أم محاراً. إذا كانت محاراً، يتوقف المركب ويتم إنزال المراسي. وأوّل من يغوص هو "المبرّي"، الذي يكتشف طبيعة القاع، ويستخرج عينة منه، ويغوص بمفرده من دون معدات تذكر.
ويشرح الجاسم أنّ الغوّاص يستخدم ثلاثة أشياء: "الحير"، وهو الحجر التي يتم إنزاله إلى القاع، و"الدييّن"، وهو إناء يجمع فيه المحار المستخرج من القاع، و"الفطام"، الذي تغلق من خلاله فتحتا الأنف لمنع دخول المياه. وفي اليوم الثاني، يبدأ الغوص لجلب المحار، ويفتح المحار في اليوم الثاني لاستخراجه من خلال "المفلقة"، وهي سكين يقطع المحارة لإخراج اللؤلؤ، ويضعونه عند النوخذة.
ينقسم الغوص لاستخراج اللؤلؤ إلى خمسة أقسام، وهي بِشيرية ومدتها نحو شهر ونصف الشهر، وتكون بعدما يصبح الطقس دافئاً، أي في الشهر الثالث، وهي عبارة عن مْجَنّى، نسبة إلى جزيرة البشيرية التي تقع مقابل مدينة مسيعيد، جنوب قطر. أما الخانجية، فهي باكورة الغوص وتكون في الشهر الرابع. ويذهب الغواصون بالسفن الصغيرة إلى المغاصات غير العميقة ويمكثون نحو شهر ثم يعودون إلى البلاد. والغوص "العود"، وهو الذي عليه الاعتماد في العمل ومدته أربعة أشهر، من أول الشهر السادس وحتى آخر الشهر التاسع، وبعد ذلك يكون القفال. والردة هي العودة مرة ثانية، وبعدد قليل من السفن، وتكون في الشهر العاشر وفي الشهر الحادي عشر، والإرديدة في الشهر الحادي عشر، لالتقاط المحار من المياه الضحلة.
وبعد شهر أو شهر ونصف من انطلاق رحلة الغوص، يأتي إلى عرض البحر شخص يسمى "الطواش"، وهو تاجر يعرض شراء اللؤلؤ من "النوخذة" وهو على متن السفينة، وبعض "الطواشين" ينتظرون على الشاطئ حتى يعود مركب الغوص لشراء "اللؤلؤ".
طعام الغوّاصين هو الأرز المطبوخ بالدبس، والذي يمنحهم طاقة وحيوية، إضافة إلى "البرنيوش" (العيش المحمر)، والسمك الذي يصطادونه خلال رحلتهم. ويشرب كل شخص مشارك بالرحلة "كبعة"، وهي نصف حبة جوزة الهند، 4 مرات يومياً.
يؤكد الجاسم أن أهل قطر هجروا هذه المهنة منذ زمن، لأن اللؤلؤ رزق من رب العالمين، والناس اليوم لا تتمتع بالصبر حتى تغوص في البحر لأشهر وقد تحصل على اللؤلؤ أو لا تحصل، في الوقت الذي يمكن القيام بأعمال أو تجارات مربحة على البرّ.
يشير الغواص القديم إلى أن اللؤلؤ الطبيعي نادر الوجود حالياً. والمتوفر والمعروض في السوق هو اللؤلؤ الزراعي. وتوضع أعداد كبيرة من المحار في مياه عذبة أو مياه البحر لتتعوّد على البيئة الجديدة، ثمّ تجرى عملية بسيطة وسهلة للمحار لإنتاج اللؤلؤ. ويوضع المحار في العناية المركزة لملاحظة أي تغيّرات تطرأ عليه، ثمّ يرجع مرة أخرى إلى المياه ليكوّن اللؤلؤ. ويخضع اللؤلؤ المستخرج لعمليات التنظيف والتلميع ليصبح جاهزاً للعرض.
وعن عمله الحالي، يوضح الجاسم أنّه بعد تقاعده من الشرطة، ونظراً لحبّه الشديد للغوص واللؤلؤ، "قرّرتُ إطلاق اسمي، أي البهلوان، على محلي لتذكير الأجيال بتاريخي، وبأنني أول بطل قطري في كمال الأجسام ورفع الأثقال. وقد أهداني الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (حاكم قطر السابق)، محلاً في سوق واقف بسبب الخدمات التي قدمتها لبلادي أبيع فيه الأحجار الكريمة". ويؤكد أن بعض الزعماء والمسؤولين زاروا محلّه، منهم ملكة هولندا السابقة آن بياتريكس، وغيرها من الرؤساء وكبار الشخصيات.
وقد شكلت فترة الغوص لاستخراج اللؤلؤ ثقافة وهوية وحياة أهل قطر، وطبعت حياتهم وسلوكهم اليومي. وكان الغوص بالنسبة لأهل قطر السبيل الوحيد لحياة كريمة، على الرغم مما قد يشوب هذه الحياة من مخاطر وتقشف.