الدهشة هي التي يشعر بها الزائر مع وصوله إلى مقابر بات التراثية في سلطنة عُمان. توصف المقابر بأنّها "خلايا نحل حجرية"، فهي مرتبة بشكل مجسمات حجرية متباعدة عن بعضها، ويشبه كلّ منها هرماً صغيراً محفوراً في الصخر.
صمدت هذه المقابر أكثر من خمسة آلاف عام، وما زالت حتى اليوم شاهداً حياً على حضارةٍ تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وعلى الرغم من العوامل البيئية وما تحدثه من تحوير، فقد جاء صمود هذه الآثار لأسباب عدة، من بينها أنّ القاعدة الصخرية التي بنيت عليها صلبة وكبيرة الحجم، بالإضافة إلى أنّ موقعها يمنع عنها السيول الجارفة، كما أنّ البناء الدائري الذي جاء على هيئة "خلية النحل" يمسك بعضه بعضاً.
أشعة الشمس تزيد "خلايا النحل الحجرية" جمالاً، على الرغم من كونها مخصصة للموتى. فمع حركتها وتبدلها تأخذ مقابر بات بالتلون، لتكون وردية حيناً ورمادية وصفراء وحمراء في أحيان أخرى.
كذلك تضفي التبدلات المناخية ميزة جمالية أخرى على المكان. ففي الليل، ومع أفق مفتوح على الجبال الشاهقة والسماء الصافية المزينة بالنجوم، تأخذ ظلال تلك المقابر المخروطية أشكالاً تطول وتقصر، وذلك بحسب الوقت.
قبل أن تُكتشف مقابر بات، من قبلِ فريق دنماركي تابع لمتحف "آرهوس"، في سبعينيات القرن الماضي، كانت المخيلة الشعبية العُمانية تنسج الحكايات حول "أكوامِ الحجارةِ" تلك، المبنية بانتظام فوقَ عدَّةِ تلالٍ في ولاية عبري بمحافظة الظاهرة الشمالية.
وفي هذا الصدد، يشير باحث الآثار حارث بن سيف الخروصي إلى أنّ أهالي المنطقة تساءلوا حول ماهية تلك "القبب" و"الأبراج". فذهب بعضهم إلى تسميتها بـ"عقوق الجهال"، وتشير التسمية إلى أخذ كبير السنّ الذي وصل إلى مرحلة متقدمة جداً ولم يمت إلى تلك الجبال، وبناء برج له توضع فيه بعض الآنية التي تحوي ما تيسر من طعام، فيأكل منها، حتى إذا نفد الطعام مات من الجوع.
ويشير الخروصي في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "وجود هذه المقابر فوق التلال يرتبط بهالة من الشموخ والعظمة التي تناسب وهيبة الموت في قلوب البشر وغموضه". ويستطرد أنّ محتويات تلك المقابر تضمّ بعض المقتنيات الخاصة بالميت، ومنها أطعمة وأسلحة بدائية كالسهام والرماح البرونزية، إذ اعتقد الإنسان في ما مضى أنّ الميت سيحتاجها إذا ما عبر إلى العالم الآخر. وبذلك تقاطعت هذه الحضارة مع حضارات أخرى في العالم كانت تؤمن بالحياة بعد الموت.
ويصل ارتفاع معظم مقابر بات إلى أربعة أمتار، ويصل في بعضها إلى ثمانية أمتار، بحسب وزارة الثقافة والتراث العُمانية. وعام 1988، ونظراً إلى قيمتها التاريخية والأثرية، أدرجت منظمة "اليونيسكو" مقابر بات ضمن قائمة التراث العالمي. وبحسب بيانات وزارة السياحة العُمانية فإنّ أهمية موقع بات التاريخية تكمن في كونها تقع عند ملتقى الطرق التجارية القديمة. فقد كانت القوافل تمر ببات محملة بالبضائع متجهة إلى المواقع الأخرى القريبة منها. وقد اقترن إدراج مستوطنة بات في قائمة التراث العالمي بموقعين آخرين هما الخطم "الوهرة" ومدافن وادي العين القريبة منها.
وتزخر السلطنة بالعديد من الآثار المشابهة لبات، ومنها "بروج كبيكب" التي ترتفع 2000 متر عن سطح البحر في محافظة جنوب الشرقية. وقد جرى اكتشاف نحو 90 برجاً في حالة جيدة هناك. ويعزى هذا إلى متانة بنائها ويصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار وقطرها إلى أربعة أمتار. وليس الوصول إليها بالأمر السهل فهي تقع فوق مرتفعات الجبال.
وهناك مقابر بوشر أيضاً، في محافظة مسقط، وهي مدافن دائرية الشكل مبطنة من الداخل بالحجارة ومغطاة بالصخور من الخارج، ويرجع الباحثون تاريخها إلى الألفين الثاني والأول قبل الميلاد.
أسماء مميّزة
يقول باحث الآثار، حارث بن سيف الخروصي، لـ"العربي الجديد"، إنّ العمانيين أطلقوا أسماء عديدة على هذه المقابر. ومن ذلك "الرجم" ومفردها "رجمة"، وهو تجمع الحصى، ويعني القبر كذلك. وأيضاً اسم "الوجمة" الذي يمكن أن يكون تحريفاً لـ"الرجمة". وفي مسقط هناك مقابر "بوشر" المشابهة، ومقابر "قرص العسل".
اقرأ أيضاً: بهلا مدينة الجنّ في عُمان