التشرّد قضيّة حساسة لم تتمكّن الجهات المعنية من حلّها في الجزائر تماماً كما هي الحال في غيرها من البلدان. فأوضاع اجتماعية واقتصادية متعددة تدفع بأشخاص معيّنين إلى الشارع لتبدأ رحلات بؤس تختلف تفاصيلها.
"سكن لائق" هذا ما يطالب به جزائريون كثيرون. وبينما تتعالى أصوات هؤلاء، ثمّة مواطنون معدمون لا يجدون إلا الشارع ملجأ لهم بعدما قذفتهم ظروف الحياة إليه. "لا أحد يختار حياة التشرّد"، يقول أحد هؤلاء كأنّه بذلك يتحدّث بلسانهم جميعاً. أينما تنقّلت، تلاحظ مشرّداً أو مجموعة من المشرّدين. فأزقة باب الوادي الضيّقة، في مرتفعات العاصمة الجزائرية، تؤوي العشرات، على سبيل المثال. من أماكنهم على الأرصفة، يراقب المشرّدون المارة، ولكلّ واحد منهم قصّته. وغير بعيد عن ساحة الشهداء، بالقرب من المسرح الوطني تحديداً، وجد عدد من المشرّدين مأوى في مدخل أحد المباني القديمة، فيما استقرّ عدد آخر عند أحد أقواس الساحة. على بعض الأرصفة، من الممكن ملاحظة عائلات بأكملها وقد افترشت الأرض ليلاً، فيما يقتات أفرادها ما يجود به عليهم أهل الخير والإحسان. وتخبر امرأة حجزت لنفسها ولصغارها مكاناً في إحدى الزوايا أنّ "عائلتي طردتني عندما عدت إليها مع ثلاثة أولاد بعد طلاقي"، معبّرة عن "أملي بالعثور على مأوى لنا".
في المقابل، ثمّة من حالفه الحظّ من بين المشرّدين وراح يستفيد ممّا تقدّمه دوريات إسعاف اجتماعي تابعة لمكتب التضامن الاجتماعي. ومهمّة الدوريات تقضي تجميع المشردين وتوزيعهم على مراكز للإيواء في العاصمة الجزائرية. وقد أفاد مكتب التضامن الاجتماعي الجزائري بأنّ أكثر من 12 ألف مشرّد تمّ إيواؤهم في مراكز استقبال في العاصمة في خلال العام الجاري. وصرّح مدير مكتب التضامن الاجتماعي التابع لولاية الجزائر محمد العيشي، في حديث إلى الإذاعة الجزائرية، بأنّ عدد المشردين الذين تمّ التكفل بهم تخطّى 10 آلاف رجل وألف امرأة إلى جانب 171 طفلاً، بينما تكفّلت مؤسسة "دار الحسنة" في العاصمة الجزائرية بـ 314 امرأة في أوضاع صعبة و105 أطفال. وأضاف العيشي إلى أنّه في خلال فترة الشتاء يزيد عدد الدوريات الهادفة إلى إنقاذ المشردين، في مختلف المناطق، لافتاً إلى أنّ المشرّدين من مختلف الشرائح العمرية يقصدون العاصمة من الولايات الداخلية. وأكّد أنّ القصّر هم الفئات التي تلقى الاهتمام الأكبر من قبل المشرفين على مراكز الإيواء، ويوجّهون غالباً إلى متخصصين نفسيين.
في السياق، تقول المتخصصة في علم النفس العيادي، الدكتورة زهرة بن موسى، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ثمّة أطفالاً قصّراً هاربين من عائلاتهم يحظون بتكفّل"، مشيرة إلى أنّها تشرف على "عدد من المشردين في داخل مراكز الإيواء، بعدما تحضرهم الدوريات". تضيف بن موسى أنّ "للقصّر حيثيات خاصة، لذا يجب التعامل معهم بحذر. فما يجري اليوم يؤثّر عليهم في المستقبل، ويمكن استغلالهم في مجموعات إجرامية كذلك".
تجدر الإشارة إلى أنّ الجهات المعنية تنظم أكثر من 1500 دورية سنوياً بهدف إيواء المشردين في مراكز خصصت لهم، وتتألّف كل دورية من 12 فرداً تابعين لوزارة التضامن الوطني والأسرة وقضايا المرأة، علماً أنّ العمليات تتمّ بالتنسيق ما بين مصالح الدفاع المدني والأجهزة الأمنية فضلاً عن الأجهزة الطبية التي تتكفّل بالجانب الصحي. وما بين عامَي 2018 و2019 تمّ إيواء أكثر من 18 ألف شخص، وتمّ الاتصال بذويهم. لكن ثمّة حالات صعبة وحساسة اجتماعياً، بالتالي تبقى في مراكز الإيواء، إمّا لأنّ الأسر ترفض إعادة احتضانها أو لأسباب أخرى. ومن بين تلك الحالات الأمهات العازبات خصوصاً.
وتنشط عشرات الجمعيات الخيرية الجزائرية في ولايات مختلفة لتأمين المساندة للمشردين، من خلال توفير الطعام لهم وكذلك الملبس والأغطية، لا سيّما في فصل الشتاء. جمعية "ناس الخير" واحدة من تلك الجمعيات ونطاق نشاطها في ولاية الشلف، إلى غرب العاصمة الجزائرية، أطلقت هذا العام حملة "شتاء دافئ" التي يشارك فيها عشرات من المتطوعين، وهم جامعيون وأطباء وشباب. يقول الطبيب فؤاد لوعيل وهو ناشط في هذه الحملة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الجمعيات التي تنشط في مثل هذه الحملات كثيرة في الجزائر، وأنا أشارك في الحملة مرّة كل أسبوع بالتناوب مع غيري من الناشطين الاجتماعيين"، داعياً "الجزائريين جميعاً إلى الالتفاف حول هذه الحملة ودعمها". من جهة أخرى، راحت جمعيات جزائرية تنظّم قوافل خيرية لتوزيع وجبات ساخنة وأفرشة وأغطية على المشردين في الشوارع، بالإضافة إلى توفير العناية الصحية بهم، وذلك في محاولة لتشجيعهم على الانخراط من جديد في المجتمع وقبول الذهاب إلى مراكز الإيواء التي تشرف عليها الجهات الجزائرية الرسمية المختصة.