في الثالث عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري، عند الرابعة عصراً، ذهبت دنماركية في السادسة والثلاثين من عمرها إلى قسم الأطفال في المستشفى الوطنية في كوبنهاغن برفقة رضيعها (4 أشهر) في موعد محدد مسبقاً. بعد الانتهاء من المقابلة الطبية، صعدت الأم إلى الطابق السادس من ذلك القسم في المستشفى لتلقي بنفسها وهي تحتضن رضيعها من ذلك العلو الشاهق. وقفت الشرطة عاجزة عن تقديم تفسير لما جرى، بحسب مدير المباحث كينيث يانسن، الذي اعتبره أمراً "محزناً جداً".
بدأت الشرطة الدنماركية في البحث عن الخلفيات العائلية والشخصية للسيدة المنتحرة، لمعرفة دوافعها. لكنّ المسألة كانت أكبر من مجرد حادثة. فقد تسبب ذلك بصدمة لشهود عيان، ما أعاد فتح النقاش بخصوص مشكلة حقيقية يعانيها المجتمع الدنماركي، ومجتمعات اسكندنافية أخرى.
قبل ثلاثة أشهر أيضاً انتحرت مواطنة ثلاثينية أخرى بالطريقة نفسها في منطقة توستروب التي لا تبعد كثيراً عن كوبنهاغن. في تلك الحادثة أيضاً احتضنت الأم المنتحرة طفلتها البالغة من العمر سنة واحدة وألقت بنفسها من الطابق الثالث، بالرغم من كلّ محاولات الإنقاذ.
تكرار حوادث الانتحار ومحاولات الانتحار في الدنمارك يعيد تسليط الضوء على هذه الظاهرة، خصوصاً مع مقتل 600 شخص انتحاراً كلّ عام، ومحاولة نحو 10 آلاف شخص الانتحار، وتكرار 6500 شخص المحاولة، 10 في المائة منهم ينفذون الانتحار خلال 5 إلى 10 سنوات من التجربة الأولى.
يربط المختصون ما بين الانتحار والاضطرابات النفسية. وتقول الأرقام الرسمية إنّ الاكتئاب يشكل الدافع الرئيس وراء تلك الحوادث. وتشير إلى أنّ نصف المنتحرين سنوياً قصدوا مستشفيات الأمراض العصبية والنفسية وعياداتها. ويقول المختصون في علم النفس إنّ تلك الاضطرابات تشكل الدافع بنسبة 60 في المائة من محاولي الانتحار.
تعتبر ظاهرة الانتحار متنامية بين فئة الشباب في الدنمارك، خصوصاً الإناث. وفي حال لم يحصل هؤلاء على مساعدة في الوقت المناسب فإنهم لا يتوقفون عن محاولة إيذاء أنفسهم.
كذلك، تشير دراسات متخصصة إلى أنّ ثلث المنتحرين والمحاولين هم من الرجال فوق سنّ الستين، وهي الفئة التي زادت بينها عمليات الانتحار بالرغم من الانخفاض الذي طرأ في فترة منتصف التسعينات.
يقول الباحث النفسي يان هينريك فينسلو، من مركز العلوم النفسية في آرهوس، وسط غرب الدنمارك، إنّ تلك الفئة العمرية من الرجال "تجد صعوبة في طلب العون، أو الحديث عما يواجهونه نفسياً. لذا تراهم يغلقون الأبواب على أنفسهم بعزلة تهيمن عليها فكرة الانتحار. ولا يفكر هؤلاء مثلاً بتأثير انتحارهم ورحيلهم على أحبتهم ومن يتركونهم خلفهم".
العاملون في مراكز الوقاية من الانتحار لا يخفون أيضاً أنّ الرجال الستينيون يعانون من بعض الاضطرابات النفسية التي لا يبوحون بها. ويؤكدون على أنّ ربع هؤلاء المنتحرين من تلك الفئة عانوا من الكآبة قبل الإقدام على الانتحار. كما أنّ الكثيرين من بينهم تصبح الحياة بلا جدوى لهم إن طرأ متغيّر كبير على حياتهم، مثل موت زوجة أو طلاق أو ترك العمل أو التقاعد أو الانتقال إلى سكن آخر غير ما اعتادوا عليه.
تقول الأرقام الرسمية حول وسائل الانتحار في الدنمارك إنّ فئة الرجال من المنتحرين ومحاولي الانتحار تختار بنسبة 44 في المائة الشنق، و22 في المائة السمّ، و9 في المائة الغرق، و5 في المائة وسائل أخرى، منها القفز من أماكن مرتفعة أو الطعن. من جهتهن، تختار الإناث السمّ بنسبة 43 في المائة، ومن ذلك تناول كمية كبيرة من الحبوب المسكنة، وهي ظاهرة تنتشر بين المراهقات، لذا لا تباع لهن سوى 10 حبوب مسكنة في المرة الواحدة.
ليست ظاهرة الانتحار دنماركية خالصة. الإحصاءات الأوروبية لعام 2012 تشير إلى احتلال الدنمارك المرتبة الثامنة بين دول الاتحاد الأوروبي، ففي كلّ 100 ألف مواطن انتحر 19 ذكراً و5.9 إناث، أي بنسبة 12.2 شخصاً من الجنسين في الـ100 ألف. لكنّ اللافت أنّ القائمة الأوروبية لذلك العام تصدّرتها المجر بـ24 مواطناً منتحراً من كلّ 100 ألف مواطن. ثم إستونيا بـ18.4 مواطناً، فبلجيكا بـ18، وفنلندا بـ16.1، وفرنسا 15.7، والسويد 12.4، و12.2 كحال الدنمارك. تليهم ألمانيا بـ11.5، وهولندا بـ10.7، وبريطانيا بـ7.2. وفي ذيل القائمة اليونان بـ4.4 أشخاص منتحرين من بين كلّ مائة ألف مواطن لعام 2012. وهي أقل نسبة انتحار في دول الاتحاد ككلّ.
اقرأ أيضاً: برد واكتئاب في خيام ألمانيا