عندما تركت أرضها في عام 1948، كانت تبلغ من العمر 13 عاماً. لم تكن صغيرة لتنسَ كيف كانت تعيش في فلسطين، ولتنسَ آلام اللجوء. وتحكي عما شهدته بحرقة، فيما لا تخفي شوقها للعودة إلى الوطن حتى تدفن في ترابه، في المكان نفسه حيث دُفن جدّها.
عطرة سعيد كعوش، أم أنور، من بلدة ميرون الفلسطينية في قضاء صفد. تخبر أنّه "لم تكن من عداوة بين أصحاب الأرض الفلسطينيين وجيرانهم اليهود الذين كانوا يعيشون في المنطقة ذاتها. أهل البلدة يحبّون الغريب والقريب، ويساعدون الجميع".
وتتذكر أم أنور خيرات بلادها وأرضها التي كانت تعيش عليها عائلتها. تقول: "أهل ميرون جميعاً، كانوا يملكون المواشي على أنواعها وكذلك الدواجن. كانت محاصيل القمح تغنيهم وكذلك الزيتون. وكانوا يخبزون المرقوق (خبر الصاج) فيما تأتيهم مياههم من بحيرة طبريا". تضيف: "كانت أرضنا زاخرة بالخيرات، لا ينقصنا شيء"، وتتذكّر كيف "كنا عندما نستحم توقد أمهاتنا الطابونة ويضعن في الماء النعناع البري حتى نتعطر به".
تشير أم أنور إلى أنّ "الصهاينة لم يدخلوا بلدتنا ونحن فيها. لكن من كان فيها من جنود عراقيين وسوريين، الذين كانوا يُسمّون جيش الإنقاذ العربي، لم يقدّموا لنا أيّ دعم ولم يؤمّنوا لنا أيّ حماية. القذائف التي كانت معهم لم تكن صالحة. كانوا يحاولون الردّ على نيران الصهاينة، لكنّ القذائف لم تكن تعمل. شباب البلدة هم الذين راحوا يجابهون العدوّ الصهيوني الذي جاء عن طريق صفد ومن ثمّ إلى عين الزيتون".
لكنهم كانوا خائفين، بحسب ما تقول. "كنا نخشى من دخول العدو الصهيوني إلى بلدتنا ونحن فيها، ويبدأ بالتنكيل بنا ويقتلنا كما فعل بقرى فلسطينية سبق واحتلها. حينها، خرجنا من ميرون إلى بيت جان، وظللنا في المنطقة حتى طلع الصباح علينا. انتظرنا ساعات قبل التوجّه إلى لبنان الذي فتح أبوابه لنا". تضيف: "خرجنا بثيابنا التي كانت علينا. نساء كثيرات خرجن من منازلهنّ من دون حجابهنّ. وفي لبنان قصدنا بنت جبيل (جنوب)، حيث كانت قد سبقتنا والدتي قبل فترة، مذ بدأت الأحوال تسوء في البلاد. كانت حاملاً، وكان والدي يخاف عليها". وفي تلك الفترة، "كان والدي يقصد لبنان باستمرار ليؤمّن لها ما تحتاجه. كان يتطلب الأمر حينها تصريحاً بالخروج من فلسطين إلى لبنان. وحتى يحصل على التصريح، كان يتعرّض لإهانات شديدة من جيش الإنقاذ".
وتتابع أم أنور: "عندما خرجنا من فلسطين، صعدنا إلى جبل مطلّ على بلدتنا. كانت فيه مغارة، فاختبأنا فيها حتى تمكّنا من تأمين خروجنا. في بنت جبيل، مكثنا فترة ليست بالطويلة قبل أن ننتقل إلى بلدة جويا الجنوبية. هناك، بقينا مدّة سنتين ونصف السنة، وبعدها توجّهنا إلى مخيم المية وميّة (للاجئين الفلسطينيين) شرق مدينة صيدا، في الجنوب. وعندما وصلنا إلى المخيّم أعطونا شوادر، نصبناها للعيش فيها أسوة بسوانا".
تؤكّد أم أنور أنّ "الحياة التي عشناها صعبة جداً. وعانينا كثيراً قبل أن نبني بيوتاً من طوب اللبن، شيئاً فشيئاً. وسكنا بيوتاً لائقة نوعاً ما". في ذلك الحين، "لم يكن أبي قادراً على العمل، وقد تقدّم في السنّ. أمي هي التي كانت تعمل لتعيلنا. كانت تذهب إلى الحسبة في مدينة صيدا لتحضر الخضار سيراً على الأقدام، وتبيعها في المخيّم. وما يتبقى، تحضره إلى البيت وتطبخه لنا".
من جهة أخرى، تزوّجت أم أنور "في الشادر، وأنجبت 11 ولداً. كان أولادي يعانون من عجز، إلا ثلاثة منهم، صبيان وفتاة". ولأنّ زوجها كان مريضاً، اضطرت إلى العمل في مطعم تابع لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لتساعد في مصروف البيت وتؤمّن الحليب لأطفالها.
في فلسطين، "كنا نعيش حياة أجمل. يا ليتهم يفتحون الحدود لأعود وأموت فيها وأدفن في ترابها. ترابها من ذهب، وهي كانت بلاد خيرات. فيها شجر مشمش وتين الوادي وصبّار وزيتون، وغيرها. وكثيراً ما كنا نوزّع من خيراتها على المعوزين، بعدما نشبع منها".