يبدو المجتمع اللبناني في ظل تطبيقه قانون السير الجديد، في حالة من الانفصام المضحك المبكي، ليس لأن أبناءه غير معتادين على تطبيق القوانين فحسب، بل لأن القوانين نفسها لا تشبه المجتمع، وليست مفصلة على مقاسه ولا منسجمة مع خصوصيته وظروفه.
القوانين في لبنان ليست، في معظمها، صناعة وطنية. منها ما زال سارياً منذ أيام العثمانيين، ومنها ما هو أحدث بقليل ويعود إلى عهد الانتداب الفرنسي. أما الجديد، فمأخوذ بحرفيّته عن الدول المتحضرة، والمقصود هنا الدول الأوروبية بشكل أساسي. إذ لا يبدو أن القوانين الأميركية تتمتع بالشعبية عينها وخصوصاً أن كل ما هو حديث، عصري وحضاري يُنسب تلقائياً إلى أوروبا.
وقانونُ السير لا يشذّ في ولادته عن هذه القاعدة. لا شك أنه قانون متطور، لكنه لا يشبه للأسف، ثقافة السوق في لبنان أو يلائم الطرقات الرئيسية والفرعية، السريعة والعادية التي لا تشكل أرضية صالحة لإنجاح تطبيقه بسبب قائمة عوراتها المتشعبة والمُعقدة.
هكذا نام المواطنون على فوضى سير تجعل من القيادة في لبنان عملاً متهوراً يتطلب مهارات خاصة، وصحوا على قانون لن ينظم السير بل يغذي خزينة الدولة من غرامات المخالفات الباهظة، ويضاعف ثروة التجار. إذ ليس من حجة، مهما بلغت قوتها، تقنع السائقين أن الأدوات التي فرض قانون السير وجودها في مركباتهم هي لضمان سلامتهم، وليست ناتجة من صفقة تجارية تستفيد من عائداتها المافيات الاقتصادية.
ولم يكن كافياً أن تذّيل قوى الأمن الداخلي المنشور الخاص بموجز المخالفات بشعار "رضا الوطن ورضا المواطنين"، حتى تحظى فعلاً بما تطمح إليه، ولا أفلحت محاولات "تدليع" المواطنين وإعطائهم فترات سماح طويلة للتأقلم مع موجبات هذا القانون العصري في كسب ثقتهم.
لم تنجح جميع التوضيحات والبيانات في إخراج قانون السير من دائرة الشك، بل فشلت في إقناع المواطن بأن "الصحوة" في تطوير أحكامه إنما تصبّ في مصلحته. هو لا يؤمن أصلاً بالحكمة القائلة: "أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً". التأخر في تطبيق القانون، أي قانون، هو إهمال وتسيّب، والالتزام في تطبيقه بعد طول غياب لا يمكن أن يحصل، برأيه، إلا لغايات خاصة. البعض يقارب القضية من زاوية مختلفة معتبراً أن وضع حزام الأمان، والتقيد بإشارات السير، وعدم استخدام الهاتف أثناء القيادة، أمور بديهية لم يكن غض الطرف عنها طوال هذا الوقت مقبولاً أصلاً، ولا يستأهل إعادة تفعيلها كل هذه الاحتفالية التي أقدمت عليها وزارة الداخلية.
والمفارقة التي تجعل كل هذه الأسئلة المرفقة بعلامات استفهام كثيرة مُبررة، تعود إلى أن المواطنين سبق أن خبروا ِإعادة الاعتبار لقانون السير في زمن وزير الداخلية الأسبق زياد بارود. نشرت الحواجز، وحُررت المخالفات، ثم ما لبثت أن تراجعت الحماسة وعادت فوضى السير إلى سابق عهدها. والسؤال – اللغز هو ما الذي يجعل الشرطي يتحمس لتطبيق القانون بشدة، ثم إهماله إلى حد أنه يرى المخالفة ويتجاهلها وكأن ما يحصل أمامه مجرد وهم أو خيال؟ وإذا كان السهر على تطبيق القوانين يحتاج إلى تعميم إداري أو تذكير من وزارة الداخلية، فما الذي يفسر هذا التغاضي والإهمال اللذين يُصيبان جميع الأجهزة المعنية في مراقبة السير في لبنان، كما لو أنهما فيروس معدٍ ينتقل في الهواء.
أحدثَ البدء بتنفيذ القانون تغييراً في علاقة السائقين بمركباتهم، وفي حركة هذه المركبات على الطرقات. ولعلّ الانفصام هو أكثر الأوصاف ملاءمة لتشخيص واقع الحال. فأن ترى سائق سيارة أجرة معتقلاً داخل حزام الأمان، هو مشهد نادر لا بل غير وارد على الإطلاق قبل تطبيق القانون. سائق الأجرة يضع حزام الأمان، لا يُدخن أثناء القيادة، لا يستعمل أياً من وسائل الاتصال، لكنه ما زال يصطاد الركاب حتى من على شرفات منازلهم، ويوقف سيارته ساعة ومتى وكيفما يشاء ليسأل زبوناً ينتظر في عرض الطريق سيارة أجرة، عن وجهته.
سائق الدراجة النارية يحترم القانون بدوره. يضع الخوذة على رأسه، لا يسير عكس السير، ولا يتجاوز شارة حمراء، ولكنه في احترامه لقانون السير لا يتورع أن يتسلل كالثعبان بين السيارات، غير آبه بالضرر الذي قد يحدثه في جنبات أو مرايا بعضها.
سائق الفان يقفز من أقصى اليمين ليدخل في مفرق في أقصى اليسار، من دون أن يكون مخالفاً للقوانين المرعية الإجراء لأن الاتجاهات غير محددة على الطرق، كما يمكنه أن يزاحم فاناً آخر على راكب يراه منتظراً على مسافة عشرات الأمتار، من دون أن تُحرّر بحقه أي مخالفة، لأن التنافس هو سر النجاح الذي لا يمكن أن يمنعه القانون!
تبدو هذه الأمور تفصيلية لا بل من نوع الهفوات القابلة للعلاج أمام أحجية إشارات السير واللافتات التي تُحدد السرعة القصوى. هنا كان لا بدّ للداخلية أن تحدد جائزة بدلاً من تحرير مخالفة لمن يُحسن التصرف أمام شارات لا تعمل، أو يستنبط السرعة المسموحة في الطرقات التي غابت عنها الشارات.
... أوقفها الشرطي بجرم التحدث على الهاتف. لم يكن الهاتف بين يديها ولا السماعات في أذنيها. حار في أمرها، لقد رأى شفتيها تتحركان، وعلامات الانفعال بارزة على وجهها. ابتسمت، وقالت له: " أغني، وهل هذا ممنوع في القانون؟".
إقرأ أيضاً: حوادث السير بلبنان: القيادة والهاتف المحمول.. "دونت ميكس"
القوانين في لبنان ليست، في معظمها، صناعة وطنية. منها ما زال سارياً منذ أيام العثمانيين، ومنها ما هو أحدث بقليل ويعود إلى عهد الانتداب الفرنسي. أما الجديد، فمأخوذ بحرفيّته عن الدول المتحضرة، والمقصود هنا الدول الأوروبية بشكل أساسي. إذ لا يبدو أن القوانين الأميركية تتمتع بالشعبية عينها وخصوصاً أن كل ما هو حديث، عصري وحضاري يُنسب تلقائياً إلى أوروبا.
وقانونُ السير لا يشذّ في ولادته عن هذه القاعدة. لا شك أنه قانون متطور، لكنه لا يشبه للأسف، ثقافة السوق في لبنان أو يلائم الطرقات الرئيسية والفرعية، السريعة والعادية التي لا تشكل أرضية صالحة لإنجاح تطبيقه بسبب قائمة عوراتها المتشعبة والمُعقدة.
هكذا نام المواطنون على فوضى سير تجعل من القيادة في لبنان عملاً متهوراً يتطلب مهارات خاصة، وصحوا على قانون لن ينظم السير بل يغذي خزينة الدولة من غرامات المخالفات الباهظة، ويضاعف ثروة التجار. إذ ليس من حجة، مهما بلغت قوتها، تقنع السائقين أن الأدوات التي فرض قانون السير وجودها في مركباتهم هي لضمان سلامتهم، وليست ناتجة من صفقة تجارية تستفيد من عائداتها المافيات الاقتصادية.
ولم يكن كافياً أن تذّيل قوى الأمن الداخلي المنشور الخاص بموجز المخالفات بشعار "رضا الوطن ورضا المواطنين"، حتى تحظى فعلاً بما تطمح إليه، ولا أفلحت محاولات "تدليع" المواطنين وإعطائهم فترات سماح طويلة للتأقلم مع موجبات هذا القانون العصري في كسب ثقتهم.
لم تنجح جميع التوضيحات والبيانات في إخراج قانون السير من دائرة الشك، بل فشلت في إقناع المواطن بأن "الصحوة" في تطوير أحكامه إنما تصبّ في مصلحته. هو لا يؤمن أصلاً بالحكمة القائلة: "أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً". التأخر في تطبيق القانون، أي قانون، هو إهمال وتسيّب، والالتزام في تطبيقه بعد طول غياب لا يمكن أن يحصل، برأيه، إلا لغايات خاصة. البعض يقارب القضية من زاوية مختلفة معتبراً أن وضع حزام الأمان، والتقيد بإشارات السير، وعدم استخدام الهاتف أثناء القيادة، أمور بديهية لم يكن غض الطرف عنها طوال هذا الوقت مقبولاً أصلاً، ولا يستأهل إعادة تفعيلها كل هذه الاحتفالية التي أقدمت عليها وزارة الداخلية.
والمفارقة التي تجعل كل هذه الأسئلة المرفقة بعلامات استفهام كثيرة مُبررة، تعود إلى أن المواطنين سبق أن خبروا ِإعادة الاعتبار لقانون السير في زمن وزير الداخلية الأسبق زياد بارود. نشرت الحواجز، وحُررت المخالفات، ثم ما لبثت أن تراجعت الحماسة وعادت فوضى السير إلى سابق عهدها. والسؤال – اللغز هو ما الذي يجعل الشرطي يتحمس لتطبيق القانون بشدة، ثم إهماله إلى حد أنه يرى المخالفة ويتجاهلها وكأن ما يحصل أمامه مجرد وهم أو خيال؟ وإذا كان السهر على تطبيق القوانين يحتاج إلى تعميم إداري أو تذكير من وزارة الداخلية، فما الذي يفسر هذا التغاضي والإهمال اللذين يُصيبان جميع الأجهزة المعنية في مراقبة السير في لبنان، كما لو أنهما فيروس معدٍ ينتقل في الهواء.
أحدثَ البدء بتنفيذ القانون تغييراً في علاقة السائقين بمركباتهم، وفي حركة هذه المركبات على الطرقات. ولعلّ الانفصام هو أكثر الأوصاف ملاءمة لتشخيص واقع الحال. فأن ترى سائق سيارة أجرة معتقلاً داخل حزام الأمان، هو مشهد نادر لا بل غير وارد على الإطلاق قبل تطبيق القانون. سائق الأجرة يضع حزام الأمان، لا يُدخن أثناء القيادة، لا يستعمل أياً من وسائل الاتصال، لكنه ما زال يصطاد الركاب حتى من على شرفات منازلهم، ويوقف سيارته ساعة ومتى وكيفما يشاء ليسأل زبوناً ينتظر في عرض الطريق سيارة أجرة، عن وجهته.
سائق الدراجة النارية يحترم القانون بدوره. يضع الخوذة على رأسه، لا يسير عكس السير، ولا يتجاوز شارة حمراء، ولكنه في احترامه لقانون السير لا يتورع أن يتسلل كالثعبان بين السيارات، غير آبه بالضرر الذي قد يحدثه في جنبات أو مرايا بعضها.
سائق الفان يقفز من أقصى اليمين ليدخل في مفرق في أقصى اليسار، من دون أن يكون مخالفاً للقوانين المرعية الإجراء لأن الاتجاهات غير محددة على الطرق، كما يمكنه أن يزاحم فاناً آخر على راكب يراه منتظراً على مسافة عشرات الأمتار، من دون أن تُحرّر بحقه أي مخالفة، لأن التنافس هو سر النجاح الذي لا يمكن أن يمنعه القانون!
تبدو هذه الأمور تفصيلية لا بل من نوع الهفوات القابلة للعلاج أمام أحجية إشارات السير واللافتات التي تُحدد السرعة القصوى. هنا كان لا بدّ للداخلية أن تحدد جائزة بدلاً من تحرير مخالفة لمن يُحسن التصرف أمام شارات لا تعمل، أو يستنبط السرعة المسموحة في الطرقات التي غابت عنها الشارات.
... أوقفها الشرطي بجرم التحدث على الهاتف. لم يكن الهاتف بين يديها ولا السماعات في أذنيها. حار في أمرها، لقد رأى شفتيها تتحركان، وعلامات الانفعال بارزة على وجهها. ابتسمت، وقالت له: " أغني، وهل هذا ممنوع في القانون؟".
إقرأ أيضاً: حوادث السير بلبنان: القيادة والهاتف المحمول.. "دونت ميكس"