في مخيّمات النزوح السوري، برد قارس ووحول. الناس بمعظمهم لا يملكون المال لشراء ثياب شتويّة، لكنّ همّهم يبقى السقف والمأوى. ويرغبون في العودة إلى بيوتهم.
يترنّح صخر بجسده النحيل وهو ينظر إلى الأسفل محاولاً سحب قدمَيه من الوحول. يتقدّم ابن الثالثة عشرة صوب باب الخيمة التي تنهمر عليها الأمطار زخّات وزخّات منذ ساعات، وقد لفّ رأسه بكوفية غطّت نصف وجهه، لعلّها تقيه لسعات البرد. يدخل ويرمي كيساً من النايلون يحتوي على بضعة أغصان، قبل أن ينزع غطاء وجهه ويجلس على طرف الحصيرة التي تمدّها العائلة فوق الأرضية الطينية. بعدها، يمسك بسكّين ويكشط به الطين عن حذائه البلاستيكي الأحمر. "هكذا أفضل. حين تجف، يصعب الأمر".
تقترب أمّ صخر وهي ربة العائلة من قطع الحطب وتتأكد من أنّها يابسة. تقول: "هذه من حصتنا. 110 كيلوغرامات فقط لكلّ الشتاء. حتى اليوم، استهلكنا نحو 70 كيلوغراماً، على الرغم من أنّنا نلجأ إليها فقط عند الحاجة". يُذكر أنّ عشر عائلات من مخيّم أطمة للنازحين (على الحدود السورية التركية)، عمدت إلى قطع وتجفيف كمية محدودة من الحطب قبل حلول الشتاء، وخصصت له خيمة لحفظه من الأمطار. لكنّ حصة كل عائلة منها قليلة جداً.
منذ أربعة أيام، لم يتسنّ لأمّ صخر أن تطهو لعائلتها مثلما تفعل عادة، فالخروج من الخيمة مستحيل. تشكو وهي تلقّم موقد الداخل من أنّ "أحداً لم يتذكّرنا برغيف خبز، وسط كل هذه العواصف والأمطار". تضيف: "من يفعل؟ إذ لم يلتفت أحد إلى جارنا المسكين المريض الذي نسمع أنينه طوال الليل. منذ بداية الشتاء، لم يقدّم له أحد علبة دواء". يفرقع الحطب ليتصاعد دخان أسود يملأ الخيمة، قبل أن يخرج من أحد الشقوق التي خلّفتها العواصف الماضية في الشوادر البلاستيكية التي تشكل جدران وسقف الخيمة. يقترب الجميع من الوعاء المعدني الكبير الذي رفعته الأم فوق قِدر يحتوي على الأرزّ والمياه المالحة.
يستنشق الأولاد الأربعة والأمّ والجدّ الممدّد من دون حراك على فراشه، ما ينفثه الموقد الذي يفتقر إلى مدخنة. يسعل الجدّ وكذلك الأطفال، فيما تبرّر أمّ صخر عدم توفّر المدخنة قائلة: "لا نملك الحطب دائماً ولا المازوت. ما نفعها؟ من أجل الشحوار (السخام)؟ ليس أسود من حياتنا". يُذكر أنّ محاولات التدفئة بطريقة أمّ صخر، تسبّبت في احتراق عدد من الخيم.
حالك هو ليل المخيّم، إذ بالكاد يلحظ المراقب ضوء مصباح (يعمل على البطارية) في حال خرج أحدهم من خيمته لقضاء حاجة ما. كذلك لا يُسمع إلا هدير الرياح ودعسات على الطين وبكاء أطفال صغار، من وقت إلى آخر، كأن عوامل الجو انتصرت على كلّ سكّان المخيّم، فلم يبقَ من خيارٍ أمامهم إلا الصمت. وعلى الرغم من أحوال البؤس في هذا المخيّم الفقير الواقع على مقربة من الحدود السورية التركية، إلا أنّ كثيرين يفضّلونه عن سواه من المخيّمات، نظراً إلى قربه من الحدود ومن بعض النقاط الطبية. كذلك، فإنّ مساعدات غذائية تدخل إلى سكّانه من حين إلى آخر.
تتشابه الحال في عشرات المخيّمات في المناطق الشمالية السورية، التي تقوم بمعظمها على أراض زراعية حول المدن. يشكو أبو ريان من مخيّم الكرامة في ريف إدلب، قائلاً: "ننام على الطين. كرهنا حياتنا من كثرة الطين. كثيراً ما نصحو وقد تدفّقت المياه إلى داخل الخيمة وبللتنا وبللت كل حاجياتنا. ماذا نفعل؟ لم نعد نعرف أيّهما أرحم، النوم تحت سقف يُقصف أو في خيمة هنا". يضيف: "خمس سنوات مرّت، وما زلنا من دون حلّ. السياسيون كلهم قذرون، أسوأ من هذا الطين الذي نغرق فيه".
أبو محمد نازح آخر إلى مخيّم الكرامة، مع عائلته ووالدَيه من حلب. يقول: "ألبس كلّ ثيابي وأشعر بالبرد، فما بالك بهؤلاء الأطفال! منذ يومَين لم أخلع أياً منها. إذا حصلت على ثياب أخرى، لن أتردد في ارتدائها فوقها. ماذا عسانا نفعل؟ ما زلنا موعودين بمساعدات شتوية. سوف ينتهي الشتاء ولم نر منها شيئاً. الطين يغمرنا". يضيف: "لا يبدو أنّ ثمّة أملاً. هذا ثالث فصل شتاء لهذا المخيّم على هذا الشكل. يحضرون الكاميرات ويصوّروننا مع الأرزّ والبرغل. لا نريد الطعام ولا الصور. نريد سقفاً ننام تحته، بعدما هُجّرنا من منازلنا". ويخبر أنّ "أطفالي الخمسة كانوا يلتصقون بأمّهم ليلة أمس ليدفؤوا، وهي دموعها مثل هذا المطر. باختصار، حياتنا هذه ليست حياة آدميين".
لا تبدو مخيّمات الجنوب السوري أفضل حالاً. ففي مخيّم الركبان الصحراوي على الحدود السورية الأردنية الذي يضمّ أكثر من 50 ألف نازح، يعاني هؤلاء من مناخ شتويّ صحراويّ قاس. ومنذ أكثر من شهر تتعاقب عليهم العواصف الرملية والمطرية، فيما تنخفض درجات الحرارة مع حلول المساء إلى ما دون الصفر. وعلى الرغم من المساحة الشاسعة التي تمتد عليها الخيم هناك، بالكاد يستطيع المرء رؤية أمتار عدّة أمامه، بسبب كثافة الغبار في الهواء التي تتسبب في مشاكل تنفسية لكثيرين. ولعلّ الأكثر صعوبة هو الروائح الكريهة التي تنتشر في المخيّم مساءً، والتي تنفثها مداخن الخيم. ويعيد المشرف على النقطة الطبية في المخيّم، شكري شهاب، تلك الروائح إلى "المواد التي يحرقها الناس ليتدفؤوا عليها، مثل الكرتون وأكياس النايلون والأوراق وأيّ شيء بلاستيكي. يحرقونها في مدافئ ما هي إلا أوعية قديمة من التنك. قلة قادرة على شراء المازوت، فقط من لديها قريب خارج سورية". يضيف أنّ "البعض لجأ إلى بناء غرف طينية لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً، قبل حلول الشتاء للتخفيف من حدّة البرد"، مشيراً إلى أنّ "الصيف هنا حار جداً، والشتاء بارد قارس، في حين لا تهدأ العواصف الرملية. وقد تأثّر الأطفال بهذا الوضع، لتكثر الأمراض بينهم. أجسامهم غير قادرة على المقاومة، خصوصاً مع الجوع وسوء التغذية". ويتابع أنّه يعاين يومياً "عشرات حالات الأمراض الصدرية والتهابات القصبات وغيرها، من كبار وصغار. لكنّ الأطفال هم الأكثرية".
أما في مخيّم زيزون في ريف درعا الغربي، فيعيش نحو خمسة آلاف نازح من ريف دمشق وحمص وريف درعا بين الوحول ومستنقعات المياه. عمر الخليلي يعيش منذ سنوات في المخيّم، وقد لجأ أخيراً إلى أحد الأبنية غير المكتملة على مقربة منه، بعدما انهارت خيمته بسبب الأمطار. يقول: "كانت خيمتي مهترئة وعمرها ثلاث سنوات. وعندما تحوّلت أرض المخيّم إلى مستنقعات، لجأت إلى هذا المكان وأغلقت النوافذ بالنايلون. جدرانه متصدّعة. حاولت ترميمها، لكنّني ما زلت أشعر بأنّها على وشك الانهيار. لا أحد غيري يجرؤ على المبيت هنا". ويشير إلى أنّ "الأطفال كلهم مرضى هنا. لا أرى طفلاً إلا ويكون مصاباً بالزكام، يداه ورجلاه زرقاء من البرد. كذلك، لا مساعدات. آخر سلّة رأيتها كانت من نحو 10 أشهر".