نصف قرن من الزمن أمضاه العمّ صادق بن الجيلاني في صناعة الحذاء الصحراوي في الجنوب التونسي، ليس لأنّه مصدر رزق بل لأنّه مصدر عشق.
أن تجلس في دكّانك 12 ساعة يومياً على مدى 48 عاماً، لهو أمر لافت. وتزداد الإثارة إذا كنت متخصّصاً في حرفة يقلّ ممتهنوها ويكثر زبائنها، فتصير نجماً فيها. هذه حال العمّ صادق بن الجيلاني (مواليد 1951) في مدينة دوز في الجنوب التونسي، صانع الحذاء الصحراوي المعروف شعبياً بـ"البلغة".
عند مدخل دكّان صغير بالقرب من سوق المدينة الذي أنشئ في عام 1910، يجلس العمّ صادق على مقعد صغير ويغرق في حذاء جلديّ جديد. كأنّما هو راهب بوذيّ مقبل على رياضته الروحية. قبل ذلك، يفتح دكانه ويُخرج ما فيه من سلع، بعناية الأب الذي يتفقّد صغاره، يقول: "علاقتي بمهنتي تتجاوز واقع أنّها مصدر رزق، لتكون مصدر عشق".
على مدى ثلاث ساعات، يأتي حديثه متقطعاً، إذ تكثر تحيّات المارين. الرجل محلّ احترام الأطفال والشباب والكهول والشيوخ والنساء، ويردّ التحية مع دعاء أو نصيحة.. "لا تبق كثيراً تحت الشمس"، "اقض حاجتك وعد سريعاً إلى البيت"، "حاولي ألا تنفقي كلّ ما لديك من نقود".
عند سرده لكلّ محطة من محطات حياته، يتوقّف للحظات، كأنّه يسترجع حرارة اللحظة. وينقل تلك الحرارة إلى كلماته وجمله. "الحياة مدرسة مفتوحة، ندفع مقابل ما تعلّمناه فيها على شكل محن ومصاعب، والمغفّل هو من يعيد التجربة الفاشلة نفسها".
عن بداياته مع الحذاء الصحراوي، يقول إنّه "بعد دراستي الثانوية، بقيت لفترة عاطلاً من العمل. فقال والدي: عليك بالمهنة التي أطعمك بها أبوك وسقاك وعلّمك، إمّا أن تفعل وإمّا أن تحمل حقيبتك وترحل. فحملت حقيبتي ثلاث مرّات، وفي كلّ مرة كنت أعود إلى البيت في النهاية. بعدها، اخترت البقاء مع والدي، فصار الحذاء الصحراوي قدري".
كان والد العمّ صادق غيوراً على الجودة، الأمر الذي وضع الفتى الطارئ على الحرفة أمام رهان إتقانها، علماً بأن العمل كلّه يدويّ نتيجة ندرة الآلات الحديثة. "كانت مواجهتي الأولى مع الجلد في عام 1968. كنت أخضع لرغبتي في التعلّم والإتقان، أكثر من خضوعي لتوجيهات والدي. وراح شغلي ينتهي مختلفاً عن شغله، ليلفت انتباه الناس".
بسرعة تمكّن الفتى من ألف باء الحرفة، ودخلت الطمأنينة إلى نفس والده الذي اتخذ قراراً بعد شهرين بترك الدكان له بما فيه. وبعدما خضع لعملية جراحية في عينيه، لم يعد يغادر البيت. "لم أصبح وريثه في الدكان فقط، بل في شؤون البيت كذلك. أمّا همّي الأكبر فأن أجعل من صناعة الحذاء الصحراوي فنّاً وإبداعاً".
بعد عشر سنوات من الممارسة والبحث والتأمّل، برع العمّ صادق في حرفته وصار محطّ اهتمام السيّاح والمقيمين، الأمر الذي أهّله لأن يصبح معلّماً في "مؤسسة التكوين المهني" في مدينة قبلّي. "كنت أتقاضى راتباً زهيداً، من دون حقّ التقاعد. مع ذلك، مكثت 16 عاماً هناك، مدفوعاً برغبتي في أن أعلّم غيري. لقد علّمت 400 شاب، هم اليوم من رعاة هذه الحرفة في مختلف المدن التونسية".
يشبّه العمّ صادق حرفته بـ "شجرة الحقّ التي تملك غصناً واحداً ومئات الجذور. يحدث أن تقصّ عشرات من تلك الجذور، لكنّها تبقى حيّة ومعطاءة، على عكس شجرة الباطل التي تملك جذراً واحداً ومئات الأغصان. ويتحدّث عن الأدوات التي يستخدمها، كأنّما هي كائنات حيّة تملك مشاعر وروحاً. "لا يمكن للآلة أن تمنح الروح لما تنجزه بها، إذا لم تستطع أن تدرك روحها كذلك".
من بين تلك الأدوات، نجد القالب الخشبيّ الذي يُحدّد شكل الحذاء. ونجد الكلّاب، وبه تكون عملية التركيب. كذلك نجد المقصّ الذي يسمّى الجلم في اللهجة التونسية، وإبرة كبيرة تسمّى لَشفا أو المخطاف. ولا ننسى المطرقة لرصّ الجلد الذي يُجلب عادة من مدينة صفاقس، ويُفضّل أن يكون من الغنم أو الماعز أو الأبقار. "يكذب عليك من يقول إنّ الجلد يفقد الروح بعد ذبح الشاة، الحرفيّ الصادق لا يصدّق هذه المقولة".
خلّفت هذه الحرفة للعمّ صادق صداقات عابرة للقارّات، فهو معروف عند السيّاح بـ "العمّ صدوك"، ويتحدّث عن بعضها بحنين دافق. "ما زالت الرسائل والهدايا تصلني من هولندا وبولونيا ورومانيا وأميركا اللاتينية، خصوصاً من أولئك الذين تعلّموا الحرفة على يدي. بعضهم مكث عندي أياماً".
هذا الاهتمام لدى الأجانب يقابله فتور لدى التونسيين، لا سيّما في ظلّ تراجع السياحة بعد عام 2011، وهو ما يحزّ في نفس "عرّاب" الحذاء الصحراوي. "يحزنني ألا يرث أيّ من أفراد أسرتي سرّ الحرفة. أبنائي الأربعة توجّهوا إلى مهن أخرى مدنية وعسكرية، ولا شكّ في أنّ هذا الدكان سيغلق بعد رحيلي". وتتغيّر لهجة وملامح العمّ صادق. يشعر بالوجع، فيستحضر وصايا أبيه له. ومنها: "حين تضع حذاء بين يديك، لا تفكّر في من سيؤول إليه من البشر، رئيساً كان أم راعياً، بل فكّر في ضميرك واصنعه كما لو كان سيؤول إلى قدمَيك".