"الساقية"، مصطلح يتجاوز لدينا تلك الآلة الخشبية دقيقة التركيب، والتي أبدعها أسلافنا النوبيون، إلى المساحة من الأرض التي ترويها. وبقي المسمى حتى بعدما حلّت طلمبات الضخ التي تعمل بالديزل محل الساقية، واتسعت الرقعة المروية، وتبعت ذلك تحوّلات في النهج الزراعي المتّبع.
في ساقية أسرتنا في شمال السودان، كنت ألحظ وأنا طفل يدرك قليلاً مما حوله، أنه مثلما تتبدّل أنواع المزروعات من حبوب وخضار وعلف، تتحول حظائر الحيوانات في كل موسم من مكان إلى آخر، وغالباَ ما تُشيّد وسط فضاء يزرع في ما بعد بغير ما كان مزروعاً قبلاً. كنّا نسعد حين يضعون الحظيرة قرب غابة النخيل، فنحظى بفرصة تسلّق النخل من دون مساءلة الكبار ما دمنا نقوم بواجب حراسة الأغنام العائدة من مرعاها. أما الجزيرة الموسمية التي لا تترك بلا زرع إلا حين تغمرها المياه لثلاثة أو أربعة أشهر، تكون بعدها مهيأة للعطاء الوفير، فهي محرمة علينا وعلى أغنامنا.
عند العودة، غالباً ما كنت أمطر أبي بالأسئلة، فيحيلني في أحيان كثيرة إلى المعلم المشرف على الزراعة في المدرسة، ولعلّه كان يقصد أن تصل المعرفة إلى زملائي التلاميذ، إذ كان المنهاج الدراسي يربط بين النظري والعملي، وما كان يمارس في بيئتنا من نشاطات. فقد درسونا الدورة الزراعية، وكيفية تخصيب الأرض بمخلفات الحيوان، وإتباع نهج تنويع المزروعات، وعرفنا أن الإطماء هو ما يجعل منتجات الجزيرة أكثر تميّزاً. كما أن مزارعينا لم يتعاطوا مع المخصبات الكيميائية إلا حين تحول أسلوب الإنتاج الزراعي من (الاقتصاد المعيشي) الذي كان سائداً، إلى إنتاج المحاصيل النقدية، وضرورة معالجة الأرض كيميائياً للحصول على مزيد من الإنتاج.
أخيراً، برزت معضلة، وهي أن رفع معدلات الإنتاجية في بلدان الاقتصادات الزراعية يتسبب في زيادة غازات الاحتباس الحراري، في حين أنّ الفقراء في حاجة لزيادة الإنتاج، ما يلزم تبني أساليب مستجدة في إنتاج الغذاء تساعد على توفير الغذاء، وتحمّل آثار تغيّر المناخ، وخفض الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
إن من شأن الترويج للنظم السليمة بيئياً، وللإدارة الجيدة للموارد أن تحقق نظم إنتاج غذائي أعلى متانة، وأكثر مرونة، بما في ذلك السيطرة على الآفات والأمراض، وتحلُّل النفايات، وتنظيم دورات المغذيات، واحتباس الماء، وصون موارد التربة، والتلقيح المحصولي. وهذا يعني أن أسلافنا كانوا أكثر وعياً منا ببيئتهم، وأن لهم من المعارف التقليدية وخلاصة التجارب ما يضاهي دراسات عديدة في هذه المجالات، أو قل الممارسات التي تتجاهل هذه الدراسات. وأنهم ـ الأسلاف - كانوا أكثر التزاماً نحو مستقبل الأجيال. ماذا دهانا؟ وهل من عودة لتلك الأنظمة والنهج وتطويرها؟
*متخصص في شؤون البيئة