منذ إغلاق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب عام 1994، تقطعت أوصال عائلات جزائرية يقيم بعض أفرادها في الجانب الآخر للحدود، فتواجه صعوبات كبيرة وتتحمل كلفة عالية ووقتاً طويلاً لتبادل الزيارات
وادٍ ومسافة قصيرة لا تتعدى 300 متر تفصل بين قرية السعيدية المغربية ومرسى بن مهيدي الجزائرية. هناك تقع بيوت جزائريين ومغاربة على طرفي الحدود التي أغلقت رسمياً عام 1994. تتجول الخراف بين البلدين من دون أن يوقفها أحد، لكن لا أحد من السكان الجزائريين أو المغاربة يمكنه أن يتجاوز الخط الحدودي بين البلدين وإلاّ كان عرضة للتوقيف من جانب حرس الحدود. بعض البيوت تطل على بعضها بعضاً في بلدتي بني بوسعيد في المغرب، والزوية في الجزائر، وفي بلدتي مرسى بن مهيدي الجزائرية، والسعيدية المغربية، وكذلك في منطقة الشراقة شمال وجدة عبر طريق بني درار في منعرجات الكربوز من جهة المغرب، وقرية لالة عيشة التابعة لبلدية باب العسة في الجزائر، حيث لا تفصل بين الجيران سوى مسافة قصيرة، وإن باعدت السياسة بينهم.
كلفة مرتفعة
في المنطقة الحدودية عائلات جزائرية ومغربية تجمعها علاقات مصاهرة وجيرة، لكن منذ إغلاق الحدود، يتوجب على كلّ من يرغب في زيارة قريبه أن يقوم بدورة كبيرة تمتد من قريته إلى وجدة ثم إلى الدار البيضاء ومنها بالطائرة إلى وهران، ومن وهران براً إلى مغنية ثم إلى القرية المعنية. والاتجاه نفسه حين تكون الزيارة في اتجاه أقارب في الجانب المغربي من الحدود. يتكبد الجزائري، وليد كبير، وأسرته الصغيرة المكونة من خمسة أفراد والتي تقيم في مدينة وجدة المغربية مشقة السفر ومبالغ مالية كبيرة. يقطع كبير وأطفاله مسافات طويلة بدلاً من 20 كيلومتراً، هي كلّ ما يفصل بين مدينتي وجدة المغربية ومغنية الجزائرية على الحدود، فيمضي 10 ساعات للوصول بالقطار إلى مدينة الدار البيضاء أو سبع ساعات بالسيارة قبل أن يركب الطائرة إلى مطار وهران، غربي الجزائر. يقول بكثير من الحسرة لـ"العربي الجديد": "لكي تصل إلى مدينة وهران في الجزائر فالمطلوب إمضاء 7 ساعات بالسيارة على الطريق إلى الدار البيضاء حيث المطار، ثم الانتظار 3 ساعات كي تتمكن من ركوب الطائرة، ومن بعدها ساعة طيران إلى مطار وهران، أي أنّ المطلوب 11 ساعة في أقل تقدير كي تصل إلى وهران انطلاقاً من وجدة، فيما يمكن أن أصل بأقلّ من ذلك بكثير، لو كانت الحدود مفتوحة".
لا تقتصر المشكلة على الوقت الذي تستهلكه عائلات جزائرية ومغربية قادتها ظروف مهنية أو عوامل أخرى إلى العيش في الطرف الآخر، فالكلفة المالية أيضاً تزداد بسبب الحدود المغلقة. وليد كبير الذي ولد في مدينة وهران الجزائرية ويعيش في وجدة المغربية يضطر إلى دفع مبالغ كبيرة للسفر عبر الطائرة لزيارة عائلته المنتشرة في الغرب الجزائري: "الأمر مكلف جداً، وبالنسبة لأسرتي المكونة من خمسة أفراد، فهو لا يقلّ عن 1600 يورو، ثمن تذاكر الطيران، ويمكن أن ترتفع أكثر في أوقات الذروة. نعم نحن نعاني بحق".
في 22 يوليو/ تموز 2018 صوّر كبير مقطع فيديو لأطفاله الثلاثة في مطار وجدة المغربي وهم يحملون العلمين الجزائري والمغربي. تحدث الابن الأصغر صلاح الدين، فطالب السياسيين في البلدين بالشعور بمشاكل الجزائريين المقيمين على الطرف الثاني من الحدود. وفي السياق، طالب وليد كبير بمعبر بري مخصص للمقيمين على الحدود لتسهيل التواصل مع بلادهم الجزائر، وقال: "لا تهمنا مواقف النظامين السياسيين. نحن نطالب بمعبر بري إنساني لعائلاتنا؛ معبر بري للراجلين فقط. هذا أقل ما يمكن تحقيقه".
قضية رأي عام
قبل سنوات، بثت قناة مغربية مسلسلاً هزلياً بعنوان "الديوانة" وتعني "الجمارك"، يظهر فيه ممثلان معروفان في الجزائر والمغرب هما الجزائري عبد القادر السيكتور، والمغربي حسن الفذ، ويؤدي كلاهما دور رجل جمارك على حدود دولته، فيتجاور المركزان ويتحدثان يومياً عن كلّ شيء. في إحدى الحلقات، يحاول شخص البحث عن كلبه الذي عبر الحدود من المغرب إلى الجزائر، فيوقفه رجل الأمن المغربي، ويمنعه من العبور، بالقول: "الكلب يمكن له العبور أما أنت فلا". قد يبدو هذا المشهد هزلياً، لكنّه يعبر عن واقع الحال على الحدود.
قبل عام 2012، بدأت الجزائر بناء خندق على طول الحدود الغربية مع المغرب، لمنع تهريب المخدرات وتدفقها إلى الداخل الجزائري. وكانت بعض العائلات، قبل ذلك، تقدم على المغامرة بالدخول تسللاً من الحدود بمساعدة رجال الأمن، أو بغضّ البصر عنهم، لكنّ مثل هذه المغامرة لم تعد ممكنة خصوصاً بعدما نشرت الجزائر عام 2016، أسلاكاً شائكة، ورفعت مستوى مراقبة الحدود.
الشاعر الجزائري المعروف، سعيد هادف، الذي يقيم منذ تسعينيات القرن الماضي، في مدينة وجدة المغربية، وهو صاحب القصيدة السياسية الشهيرة "زوج بغال" نسبة إلى اسم المعبر الحدودي بين البلدين، حاول في فبراير/ شباط 2014 تحت وطأة ظروف خاصة أن يجرب عبور الحدود المغلقة لزيارة عائلته التي تقطن في مدن الغرب الجزائري، في لحظة تحدٍّ لقرار إغلاق الحدود والدفاع عمّا يصفه "حق التنقل". كان قد مضى على عدم رؤية سعيد لوالدته ثلاث سنوات لظروف خاصة، وعندما أبلغ بمرضها قرر زيارتها والدخول عبر الحدود، فجرى توقيفه من جانب حرس الحدود الجزائري، وأحيل إلى المحاكمة. لكنّه، مع ذلك، أبدى تمسكه بحقه في التنقل، إذ لا قانون في الجزائر يمنع الجزائري من العودة إلى أرضه. في المقابل، حاول وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية في مدينة مغنية الجزائرية تكييف التهمة ضد هادف باعتبارها "مغادرة التراب الوطني عبر مسالك غير رسمية" لكنّ هادف رفض هذه التهمة، كونه كان بصدد الدخول وليس المغادرة.
يقول هادف لـ"العربي الجديد": "حرس الحدود الجزائري الذين أوقفوني تعاملوا معي بلباقة، إلى أن جرى تسليمي إلى وكيل الجمهورية. ما قمت به حينها لم يكن خرقاً للقانون وكان على وكيل الجمهورية أن يخلي سبيلي، لأنّه عجز عن تكييف التهمة التي تخصّ المهاجرين غير الشرعيين الذين يكونون في حالة مغادرة، وأنا لم أكن مثل هؤلاء، إذ لم أكن مغادراً للبلاد بل كنت عائداً إلى أرض الوطن لزيارة والدتي المريضة التي لم أرها منذ ثلاث سنوات بسبب الحدود المغلقة". يضيف: "حتى القاضي الذي مثلت أمامه لاحقاً كان مرتبكاً ومتردداً بسبب المشكلة نفسها في تكييف القضية، وبدا كما لو أنّ الأمر أشبه بالتلفيق، وهذا ما دفع القاضي إلى إصدار حكم مخفف وغير نافذ، ومع ذلك رفضته". يعلق: "كنت أعتبر، وما زلت، أنّ القضية برمتها ليست قضيتي، بقدر ما هي قضية رأي عام، فهناك إجحاف واضح لأنّ القرار الذي أغلق الحدود البرية أبقى على الجو مفتوحاً، وبذلك، فإما أن تفتح الحدود البرية وإما أن تغلق الأجواء بين البلدين أيضاً".
صراخ عبر الوادي
حول مشكلة متاعب سفر الجزائريين المقيمين في المناطق والبلدات المغربية الحدودية، حاولت النائبة في البرلمان الجزائري، عن الجالية في منطقة المغرب والمشرق العربي، أميرة سليم، طرح مقترح بفتح خط جوي بين مطار وجدة المغربية الحدودية ومطار تلمسان غربي الجزائر، أو ضمان توقف للرحلة التي تربط بين مطار الدار البيضاء المغربية ووهران غربي الجزائر في مطار وجدة المغربية الحدودية، بما يمكن أن يختصر الوقت والكلفة على الجزائريين المقيمين على الحدود، لكنّ هذا المطلب ظلّ معلقاً ومن دون رد.
منذ قرار المغرب عام 1994 فرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين (ألغي القرار عام 2003) وردّ الجزائر بقرار إغلاق الحدود البرية، ظلت الحدود على هذه الحال، وأخفقت كلّ مساعي حلّ الخلافات بين البلدين.
يتغلب أهل الحدود ممن لا يستطيعون توفير كلفة الانتقال على هذا الفصل بينهم بسبيل آخر. وتأتي العائلات الجزائرية والمغربية المتصاهرة أو التي تجمع بينها قرابات في الأعياد والمناسبات إلى المنعرج الشهير، الذي يسميه الجزائريون وادي كيس، ويسميه المغاربة وادي أغبال. هناك يصرخون لبعضهم بعضاً من خلف الحدود أو يتحدثون عبر الهواتف المحمولة وهم يتبادلون النظرات، وإن من بعيد.
في الفترة الأخيرة بالتزامن مع الحراك الشعبي في الجزائر، حدث حراك آخر على جبهة الحدود، إذ تبنت مجموعة من الناشطين والمثقفين الجزائريين قضية معاناة العائلات الجزائرية والمغربية، وأطلقت تحركاً سياسياً وثقافياً، خصوصاً بعد بروز روح أخوية عالية بين الشعبين خلال منافسات كأس أمم أفريقيا لكرة القدم أخيراً. وفي التحرك الرامي لإنهاء أزمة الحدود مع المغرب نظمت ثلاث وقفات عند الخط الفاصل بين البلدين لمطالبة السلطات السياسية في البلدين بالتفكير الجدي في تسوية الوضع غير الطبيعي في العلاقات وإنهاء حالة إغلاق الحدود البرية بينهما. وفي هذا الإطار، يقول صاحب المبادرة، الشاعر سعيد هادف لـ"العربي الجديد" إنّ المبادرة تأتي في سياق "تغيرات إيجابية أحدثها حراك 22 فبراير/ شباط في الذهنيات والإرادات، والتي يمكن أن تسهم في إنهاء مأساة العائلات الجزائرية والمغربية على الحدود، وتسوية العلاقات بما يخدم مصلحة الشعبين والبلدين".