يبدو أنّ تاريخاً جديداً سيُكتب لمحافظة دير الزور، عن أكبر مأساة جماعية خلال الأزمة السورية، بدءاً من عام 2011. في ذلك العام، عرفت البلاد حراكاً شعبياً طالب بالحرية والكرامة، وسرعان ما تحول إلى صراع مسلح. وفي عام 2014، وقعت دير الزور تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، بعد نحو عام من سيطرة الفصائل المعارضة السورية عليها، ما أدى إلى نزوح نصف عدد سكانها المقدر بـ 1.5 مليون شخص حينها، لترتكب أبشع المجازر وعمليات القتل بحق أبنائها طوال أكثر من عامين ونصف العام. بعدها، بدأت المعارك لطرد التنظيم من قبل "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) مدعومة من "التحالف الدولي لمحاربة داعش"، إضافة إلى القوات النظامية والمليشيات مدعومة من القوات الروسية، ما أدى إلى نزوح بقية سكانها في ظل أوضاع إنسانية مأساوية.
ويقول ناشطون من أبناء دير الزور، لـ "العربي الجديد"، إن "من اختار البقاء من أهالي دير الزور بسبب عدم قدرته على النزوح، يجبر اليوم على المغادرة هرباً من القصف، وذلك بما تأمّن من وسائل نقل، أو حتى سيراً على الأقدام". ويلفتون إلى أن "الأهالي يتنقلون بين القرى متجهين شرقاً إلى ريف الحسكة الخاضع لسيطرة قسد، محاولين تفادي الوقوع بين أيدي مقاتلي التنظيم الذي يمنعهم من الخروج ليبقوا دروعاً بشرية. وهؤلاء قد يضطرون إلى تجاوز حقول الألغام، وعادة ما يتقدمهم شخص ليستكشف الطريق. وفي حال انفجر فيه لغم، يتقدّم آخر ليأخذ مكانه، إلى أن يخرجوا من المنطقة الخطرة". يتابعون: "ومن يحالفهم الحظّ في الوصول إلى نهر الفرات، عليهم اجتيازه إلى الضفة الشرقية من خلال عبارات مائية. مرة جديدة، يجازفون بحياتهم، إذ أن الطائرات الحربية تملأ سماء الدير، وقد قتل عشرات المدنيين على ضفاف النهر". ويوضحون أن "النازحين من الدير يحاولون تجنّب تلك الطائرات. وكلّما باتت إحدى المجموعات جاهزة لخوض تلك المغامرة، تهرول إلى العبارة لتنقلهم إلى الضفة الأخرى في ما يشبه السباق مع الوقت. بعدها، يواصلون رحلتهم إلى ريف الحسكة، والتي غالباً ما تستغرق نحو 7 ساعات".
ومع اجتياز مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة "داعش"، يبدأ فصل جديد من القهر، بعدما ينقلهم مقاتلو قسد إلى مخيم عبارة عن مساحة ترابية كبيرة فيها خيام رثة. وليس فيها خدمات أو مراحيض، ما يضطر النساء إلى انتظار حلول الليل لقضاء حاجتهن والاستحمام. وبالكاد يحصلون على المياه والطعام. ويلفتون إلى أن معاملة النازحين ليست جيدة بشكل عام، والسبب هو أعدادهم الكبيرة وعدم قدرتهم على تلبية كل الاحتياجات بسبب إمكانياتهم المحدودة. كذلك، تؤخذ الأوراق الثبوتية من النازحين، ويتعرّض بعض الشباب للاعتقال والتحقيق، بسبب قدومهم من مناطق داعش. ويمنعون من التجول في مناطق الحسكة.
ويذكر الناشطون أن بعض النازحين ينتقلون إلى مخيّمات أخرى، على رأسها مخيم عين عيسى، الذي بات يعاني من اكتظاظ شديد. ويصل عدد المقيمين فيه إلى نحو 18 ألف نازح، وسط نقص شديد في المواد الغذائية ومياه الشرب والخدمات، وانعدام الرعاية الصحية تقريباً. وينتقل آخرون بالسيارات إلى عفرين بعد انتظار يدوم ساعات، ليتابعوا رحلتهم إلى مدينة دار عزة، ثم يختار كل واحد وجهته. وأبرز المناطق التي يقصدونها هي سلقين وحارم وسرمدا، علماً أنه لدى غالبية النازحين من الدير أقارب أو معارف سبق أن نزحوا عندما سيطر التنظيم على دير الزور، وهناك من يتوجه إلى تركيا من خلال شبكات التهريب.
من جهته، يقول الناشط عيسى الرقاوي، لـ "العربي الجديد"، إن "وضع نازحي دير الزور مأساوي، ويصل المئات يومياً في حالة يرثى لها، بعد رحلة شاقة وخطرة، بينهم نساء وأطفال وكبار في السن. كما أن بعض الحالات الصحية في حاجة إلى رعاية طبية، في وقت تغيب المنظمات الإنسانية الدولية عن أخذ دورها الحقيقي، والاستجابة إلى هذه الكارثة الإنسانية التي تطاول مئات آلاف المدنيين". ويوضح أن "تركيا، كما يُشاع، لا توافق على إدخال المساعدات الإنسانية إليها بسبب موقفها من الأكراد الذين يشكلون العصب الرئيسي لها. كذلك، لا يوافق النظام على دخول المساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق، ما يجعل الحمل كله على بعض المنظمات المحلية التي تعتمد على التبرعات والمساعدات من التحالف الدولي. وتبقى عاجزة عن تلبية الاحتياجات المستعجلة للنازحين".
ويؤكّد الرقاوي أن "الأزمة الإنسانية ستتفاقم خلال الأسابيع المقبلة مع بدء فصل الشتاء، وغياب الاستعدادات في تلك المخيمات"، لافتاً إلى أن الخيام غير مؤهلة لرد البرد والمطر، ولا وقود للتدفئة، وما من ملابس شتوية. ويوضح أنه إضافة إلى الاحتياجات المعيشية الأساسية، هناك جانب لا يقل أهمية، وهو عدم وجود مدارس أو مراكز تعليمية للأطفال، علماً أن كثيرين باتوا خارج المدارس، عدا عن غياب الدعم النفسي لأولئك الذين اختبروا القصف والموت، وما عاشوه في ظل التنظيم. وهذا الأمر يحتاج إلى تضافر جهود مختلف المنظمات الدولية".