"كيف الحسكة؟ ها ها ها. يا ستَيْكة. ابتسم! نازلة صورتك عالفيسبوك.. خد لك ألف (خذ مالاً) واشتريلك منقوشة". وهي قد تكون "برداي (ستارة) أو إم أربع عيون. وهو قد يكون طبّوش أو نملة أو..". هذه مجرّد قصّة نشرتها "المفكّرة الصغيرة" حول التنمّر، ذلك المصطلح الذي بات يُستخدم بكثرة في السنوات الأخيرة. وقد راحت مدارس، قليلة، تنظّم حملات توعية للأطفال حول التنمّر وخطورته. ويمكن لطفل في إحدى هذه المدارس أن يشرح عن التنمّر. هو نفسه، ربّما يكون قد ضايق أحد زملائه لأنه ممتلئ الجسم ولا يستطيع الركض مثله. لكنّه بات على الأقل يفكّر في الأمر.
يعرّف أستاذ علم النفس في جامعة "بيرغن" في النرويج، دان ألويس، والذي يعدّ الأب المؤسّس للأبحاث حول التنمّر في المدارس، التنمّر بأنّه "أفعال سلبية متعمدة من قبل تلميذ أو أكثر لإلحاق الأذى بتلميذ آخر. وهي تأتي بصورة متكررة طوال الوقت".
من جهته، كان ابن خلدون قد تناول "القهر" في مقدّمته الشهيرة. فقد كتب: "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدى بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله".
دول عدّة تعدّ التنمّر الذي ينتشر في المدارس، تهديداً. ودائماً ما تكون الصور المرافقة هي لجلّاد قاسٍ وضحيّة تفضّل الانزواء. في لبنان، لا إحصاءات حول هذه الظاهرة القديمة ـ الجديدة، بعدما حُدّدت في إطار علمي. مع ذلك، يكثر الحديث عنها مؤخّراً. فجأة، وُجِد المصطلح وبات متداولاً.
في هذا السياق، يعزو أستاذ العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللّبنانية قاسم كَلوت الأمر إلى "دخول مفهوم الإرشاد التربوي والإرشاد الاجتماعي إلى لبنان مؤخّراً، قبل عقد أو عقدَين من الزمن. وأينما وجد، نلاحظ اهتماماً بمشكلة التنمّر، لكنّ الأمر لا يشمل المدارس الحكومية في لبنان". ويلفت إلى أنّ "وزارة التربية أخذت مفهوم الإرشاد التربوي إلى مكان آخر، وهو الإشراف".
يتحدّث كَلوت عن أسباب عدّة للتنمّر. يقول: "إمّا أن يكون المتنمّر قد تعرّض للتنمّر في بيئته، أو هو نتيجة اختلاف في وظائف الدماغ، أو اختلال نفسي إذا ما نُبذ من قبل إحدى الجماعات وكان لا يجيد تقنيات التواصل، أو واقع نظام الضبط في البيت أو المدرسة". في المحصّلة، "هو حالة اختلال نفسية وتربوية وبيئية. ولا يختار المتنمّر ضحيّته عبثاً، إذ عادة ما تكون صفاتها معاكسة لصفاته. فإذا كان المتنمّر قوي البنية على سبيل المثال، يختار شخصاً ضعيف البنية، وكأنّما في ذلك تلازم بين المتنمّر والمتنمّر عليه".
يشير كَلوت إلى "ثلاثة أنواع من التنمّر. الأوّل ماديّ أي العنف، والثاني معنويّ وقد يكون تحرّشاً أو سعياً إلى إغاظة الآخر أو استفزازه. أمّا الثالث فهو التنمّر الرمزيّ، أي إطلاق عبارات أو أوصاف بحقّ المتنمّر عليه، وذروة التنمّر هي الثلاثة معاً".
يكثر المزاح بين الأطفال. وهؤلاء يسعون دائماً إلى التفوّق على بعضهم بعضاً، أو أنّهم ببساطة قد يستجيبون لأمزجتهم. وليس كلّ تصرّف، وإن ضايق الآخر، تنمّراً. هنا، يلفت كَلوت إلى أنّ "تشخيص التنمّر يكون من خلال تكرار السلوك خلال فترة زمنية قصيرة، واختلاف سلوك المتنمّر، وشكوى المحيطين به، وتراجع أدائه في المدرسة، وظهور مشاكل في السلوك. وفي الوقت الحالي، إحدى أهم وظائف المرشد التربوي هي التصدي لهذه المشاكل".
وفي ما يتعلّق بالمقارنة بين المدارس الرسميّة والخاصة، يوضح كَلوت أنّ "لا دراسات كافية في لبنان حول هذه الظاهرة. لكنّ إحدى الدراسات التي أعدّت في مدرسة خاصة للفتيات في لبنان، أظهرت أنّ نسبة المتنمّرات لا تقلّ عن نسبة المتنمّرين، وإن كان موضوع التنمّر هو الذي يختلف"، لافتاً إلى أنّ الإناث يلجأنَ إلى العنف الرمزيّ. ويبيّن أنّ "التنمّر ليس محصوراً بطبقة أو بأخرى، بل هو عابر لأسباب كهذه. والنتيجة هي جنوح المتنمّر، سواء أكان ذكراً أو أنثى، نحو الجريمة أو الاعتداء. أما المتنمّر عليه، فقد يعاني من اضطراب في شخصيّته أو اختلال نفسيّ، وقد يصاب بأمراض كثيرة مثل الاكتئاب". ويشدّد كَلوت على أنّ ليس كلّ عنف، معنوياً كان أو غير ذلك، هو تنمّر. ويرى أنّ "الأهل حالياً هم أكثر وعياً لمضمون التنمّر، وإن كان المصطلح ما زال غريباً".
من جهتها، تقول الأستاذة المحاضرة في كلية التربية ليلى الرفاعي إنّ "هذا السلوك عادة ما يظهر في المراحل الابتدائيّة"، لافتة إلى أنّ "المتنمّر في حاجة إلى اهتمام. فهو ضحيّة قبل أن يسعى إلى إيذاء آخرين". وترى أنّ "ثمّة ضرورة للعمل على زيادة الثقة في النفس لدى المتنمّر، بالإضافة إلى تأكيد الذات، خصوصاً أنّه يلجأ إلى التنمّر لتعويض النقص. الأمر نفسه ينطبق على المتنمّر عليه. فإذا كانت المدرسة تهتمّ بتنشئة الأطفال على الاستقلاليّة والثقة، فإنّهم سوف يكونون قادرين على الدفاع عن أنفسهم". تضيف أنّ "التنمّر يؤثّر على التحصيل الدراسي ونموّ الشخصية"، مشدّدة على أهميّة أن تحترم المدارس الطفولة، وتتعامل مع التلاميذ بإنسانية، وتهيّئ أجواء من السعادة والثقة".
تجد "المفكّرة الصغيرة" أنّه "حان الوقت للتفكير بقانون ضدّ التنمّر". قبل ذلك، ربّما يجب تحديث المناهج والاستعانة بمرشدين اجتماعيين ونفسيين وتوعية المدارس والأهل والمجتمع، حتى لا يخلّف التنمّر مزيداً من العنف في مجتمعات مهيّأة لذلك، وحتى لا تكبر الفجوة بين التلاميذ. فهو ليس طبّوش وهي ليست نملة. هو هاني (مثلاً) وهي ريم.