في حيّ العامريّة في الإسكندريّة، على مقربة من إحدى أكبر الشركات المصنّعة للإيثيلين في الشرق الأوسط، يعيش مصريون وسط الإهمال ومياه الصرف الصحي.
على قدم واحدة، يقف محمد محروس، فيما يرفع الأخرى نتيجة الازدحام داخل أتوبيس نقل عام، يتكدّس فيه مواطنون مصريّون يفوق عددهم الحدّ الأقصى المعقول. لا يعبأ بالزحام ولا بصراخ الركّاب الآخرين في وجهه من دون سبب معروف، إذ هو منهمك بعملية حسابية شديدة الدقة، يحاول من خلالها تقسيم راتبه الشهري على المستحقات التي تنتظره.
قبل أن يتوصّل إلى "حلّ سحري" لأزمة الراتب، يُفاجَأ محروس، العامل في أحد مصانع منطقة العامرية في غرب الإسكندرية، بتوقّف الأتوبيس. أمّا السبب، فحاجز تفتيش أمني. ينظر من النافذة فيجد الشارع وقد امتلأ بقوّات الأمن وبالسيارات المصفّحة والأسلحة التي انتشرت يميناً ويساراً في أيدي جنود ملثّمين. أجبِر الأتوبيس على البقاء في مكانه، إلى حين مغادرة رئيس الجمهورية المنطقة المجاورة التي قصدها لافتتاح "مصنع الشركة المصرية لإنتاج الإيثيلين ومشتقاته".
خلال ساعات الانتظار، راح محروس يتذكّر المعاناة اليومية التي يعيشها وسكان المناطق القريبة، من جرّاء زيارات مماثلة واستمرار تجاهل الحكومة مشاكلَ المنطقة، التي غرقت شوارعها الرئيسية في مياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى انعدام الخدمات الصحية وانتشار الظلام في الشوارع القريبة من المصنع الجديد.
أزمات بالجملة
يقطن محروس في حيّ العامرية على حدود محافظة الإسكندرية، في قرية الناصريّة وهي واحدة من القرى الواقعة على أطراف المدينة. لا يسكن هناك سوى عشوائيين يشعرون بأنّهم على هامش الحياة، بلا أيّ اهتمام من قبل المسؤولين التنفيذيين على جميع الصعد. يُذكر أنّ أهل تلك القرى يشربون المياه بطعم المجاري، التي تُغرِق مداخل منازلهم وتبتلع الصغار في محاولاتهم اليائسة للوصول إلى بيوتهم.
أزمات إنسانية عدّة تُحاصر المنطقة حيث مصنع الإيثيلين، الذي افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل فترة، تدفع الأهالي إلى التساؤل عن جدوى المشروعات التي يصفها السيسي بالعملاقة، والتي يُعيد افتتاحها كلّ فترة، مع ما يرافق ذلك من أثر سلبيّ على واقع عيشهم مع مرور الوقت.
وكان السيسي قد أعلن خلال الافتتاح أنّ مشروع مجمع الشركة المصرية لإنتاج الإيثيلين هو من أكبر المجمعات الصناعية في مصر، مع إنتاج بطاقة 460 ألف طنّ سنوياً لتغطية احتياجات السوق المحلية، وتصدير الفائض إلى الخارج، عبر جذب استثمارات عدّة داخلية وخارجية.
بمجرّد وصولك إلى قرية الناصرية القريبة من المصنع الجديد، تستقبلك وجوه أطفالها البسيطة، فيما تشقّ مياه الصرف الصحي طريقاً لها في الشوارع الضيقة. هنا، مستشفى مع وقف التنفيذ. يقول الأهالي إنّه "كامل التجهيزات والمستلزمات الطبية، لكنّه لا يعمل بسبب عدم توفّر أطباء وموارد بشرية لازمة".
العمّ حسن جابر تخطّى الستينيات من عمره، فيما كثرت تجاعيد الزمن التي حفرت وجهه. يبحث عن مخرج لقريته الصغيرة التي يرغب في تطويرها والنهوض بها، فيقول: "مشكلتنا الرئيسية إنّنا عايشين مش عارفين إحنا تبع مين! على الرغم من أنّنا نسمع في كل فترة عن زيارات مسؤولين للمنطقة أو الحيّ، إلا أنّ المرافق والخدمات غير متوفّرة". يضيف أنّ مياه الصرف الصحي، على سبيل المثال، تجري باستمرار في الشوارع وقد تسببت في تآكل البنية التحتية للبيوت".
لا يختلف الوضع الصحي في الناصرية عن الأوضاع الأخرى، وهو مشكلة بحدّ ذاته. يمكن للناظر أن يلحظ بسهولة البنية الجسمانية الهزيلة لأطفال القرية، فيما تظهر على وجوههم البريئة لسعات الناموس والحشرات الأخرى.
من جهته، يشكو محمود سعد، وهو من سكان القرية، في أواخر الأربعينيات من عمره، من تدهور الوضع الصحي. يقول: "لدينا مستشفى واحد، ويترتّب على المريض الحصول على الدواء من خارجه، على حسابه الشخصي. هذا أمر يمثّل عبئاً على أهالي القرية البسطاء". ويتحدّث عن "مشكلة أخرى تهدد حياة الأهالي، وهي اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي في بعض الأحيان، الأمر الذي يعرّضهم للإصابة بأمراض عدّة، فيما العناية الصحية ليست جيدة في المستشفى".
ويشرح سعد "مشكلة المستشفى الرئيسية، وهي عدم وجود أطباء، من كل التخصصات، ولا ممرضات وعاملين صحيين، نظراً لبُعد المستشفى وموقعه في مكان ناءٍ". وتتدخّل هبة فوزي، ربّة منزل من سكّان المنطقة، قائلة إنّ "المشكلة الكبرى هي أنّ أكثر من قرية تعتمد على هذا المستشفى. لكن، نتيجة عدم توفّر كل التخصصات، راح الناس يقصدون مستشفى العامرية التخصصي على الرغم من موقعه البعيد".
إلى ذلك، يتحدّث محمد عبد الحميد من سكّان القرية، عن "أوضاع المواصلات وخدمات النقل التي تُعدّ من مظاهر الإهمال التي تعاني منها القرية". ويضيف: "على الرغم من أنّ خمسة أوتوبيسات نقل عام خصّصت للقرية، إلا أنّها لا تعمل كلها نتيجة تعنّت عدد من السائقين وتحججهم بعدم أمان الطريق. وهو ما تسبب في تعطيل المواطنين عن أعمالهم، وتأخر التلاميذ عن مدارسهم".
أمل في الإعمار
الحاج عامر فتحي من سكّان منطقة زاوية عبد القادر المتاخمة لمصنع الإيثيلين، يشكو من "انقطاع المياه لفترات تصل إلى خمسة أيام متتالية من دون أن يتدخل أيّ من المسؤولين، على الرغم من شكاوى الأهالي وتوسلاتهم المتواصلة". ويضيف: "تمنّيت للحظات أن يسمح لي الأمن والحرس الرئاسي والعسكر باجتياز الحواجز ومقابلة الرئيس. كنت أريد مطالبته بإيجاد حلّ دائم لأزمة المياه".
وتشير عفاف غُنيم، وهي طالبة في جامعة الإسكندرية تقطن في منطقة الناصرية التي تبعد كيلومترات عن موقع المصنع، إلى أنّ "الأهالي عاشوا سنوات طويلة على أمل إعمار المنطقة وتطوير بنيتها التحتية. لكن، على الرغم من تزايد أعداد سكانها بدرجة كبيرة، إلا أنّ المسؤولين لا يدرجونها في إطار أولوياتهم، خصوصاً أنّها نائية ولا تقع في قلب المدينة". تضيف: "أرسلنا مئات الشكاوى إلى ديوان عام محافظة الإسكندرية، على خلفية معاناتنا المستمرّة من نقص المياه وإهمال شبكات الصرف الصحي وتهالك محطات المياه وضعف الخدمات".
أمّا مجدي إبراهيم وهو من العاملين في مجمع "الشركة المصرية لإنتاج الإيثيلين ومشتقاته" (إثيدكو) في العامرية، فيقول إنّ "من أبرز عوامل هروب الاستثمارات الأجنبية، هو عدم توفّر بيئة مناسبة للاستثمار". ويشير إلى أنّ "الإهمال يضرب منطقة عبد القادر ككلّ، من إهمال في الإسكان والطرقات والصرف والكهرباء. وهذه كلها عوامل منفّرة للاستثمار وليست جاذبة له على الإطلاق، بالإضافة إلى وجود مصانع ينشر بعضها غازات سامة، الأمر الذي أدّى إلى انهيار إنتاجها من المحاصيل واللحوم".
ويشكو إبراهيم من الطريق المؤدي إلى الشركات والمنازل المجاورة، قائلاً إنّه "غير ممهّد ولا إضاءة فيه وغير آمن، على الرغم من أنّه يعدّ البوابة الرئيسية لأكبر ستّة مصانع في الإسكندرية، من بينها شركة إثيدكو، إحدى أكبر الشركات المصنعة للإيثيلين في مصر والشرق الأوسط. كذلك هو مدخل لمساكن عبد القادر الجديدة والقديمة، التي تؤوي آلاف الأسر".
في سياق متّصل، يؤكد محمد شوقي وهو من أهالي قرية الناصرية الأكبر سنّاً، أنّ "أجيالاً عاشت وماتت في المنطقة على أمل إعمارها وتطوير بنيتها التحتية. لكنّ الأمور ما زالت على حالها". ويشير إلى أنّ "أهالي منطقة البتر وكيماويات الملاصقة لمصنع الإيثيلين، يرسلون شكاوى شبه شهرية إلى ديوان عام محافظة الإسكندرية، بسبب معاناتهم التي لا تنتهي".
ردود شبه رسميّة
من جهته، يقول رئيس حيّ العامرية في الإسكندرية أحمد عثمان إنّ "أماكن متفرقة من العامرية طُوّرت، ومنها الناصرية والإسكان الصناعي وكذلك عبد القادر وتوشكي والنوبارية وغيرها من الأماكن المجاورة". ويوضح عثمان: "نشنّ حملات متعاقبة لإزالة التعديات عن أراضي الدولة، بالتنسيق مع قسم شرطة العامرية الأول والإدارات المعنية. أمّا الهدف فإزالة التعديات على الأراضي التي تملكها الدولة، وتمكين الأجهزة المحلية من تطوير الحيّ".
بالعودة إلى مستشفى العامرية وهو الوحيد في المنطقة، يقول وكيل وزارة الصحة في الإسكندرية، مجدي حجازي، إنّه "يقدّم الخدمات إلى قرى ومناطق سكنية عدّة واقعة في غرب الإسكندرية". ويضيف أنّ "المستشفى يوفّر كل التخصصات الممكنة ويتيحها للأسر. وهو يشمل كذلك بعض التخصصات النادرة في العيون والجراحات الدقيقة". ويلفت حجازي إلى "توفير الأمن اللازم في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، وذلك بمشاركة قوات من الشرطة والجيش"، مؤكداً على أنّ الوزارة حاولت توفير الحدّ الأدنى من الأمن".