بينما تُنتهك حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، تتعالى الأصوات المنادية بإرساء العدالة الاجتماعية عبر اعتماد مبدأي المساواة والإنصاف. فما الذي تعنيه هذه المفاهيم؟
يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو إنّ "مرور الإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية يؤدي إلى تغيير واضح في أسلوب معيشته لتحلّ العدالة مكان الغريزة". لا شك أنّ انتفاء الغريزة وتفعيل العدالة هو التعبير الأسلم عن تراجع الأنانية الذاتية، مروراً بالاعتراف بوجود الآخرين وحقوقهم، وصولاً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
العدالة الاجتماعية من المفاهيم الأكثر تداولاً في أيديولوجيات ونقاشات الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية، فهي تشكل الحصان الذي يمتطي، من خلاله، السياسي أو النقابي، الرأي العام، بتقديم وعود خالصة الإنسانية تتأرجح بين مفهومين متكاملين هما: المساواة والإنصاف.
بداية، تأتي العدالة الاجتماعية تطبيقاً لمفهوم المساواة الذي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، معتبراً أنّ الأفراد يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق. والتطبيق الحقيقي لمبدأ المساواة من الناحية الاجتماعية يوجب التمييز بين المساواة بين الأفراد من جهة، والمساواة بين المجموعات المكوّنة للمجتمع من جهة ثانية.
على مستوى الأفراد، تعني العدالة الاجتماعية أن يكون الأشخاص الموجودون في ظروف متطابقة خاضعين لمعاملة متساوية وبالأسلوب نفسه وأن تعطى لهم الحقوق ويخضعوا للموجبات نفسها. لكنّ العدالة الاجتماعية تتجاوز هذه المساواة القانونية الشكلية إلى التكافؤ في الفرص، وبذلك، يسعى المشرّع عبر خطط تعليمية أكاديمية وتطبيقية إلى تمكين جميع الأفراد من الفرص نفسها في النجاح وفي إثبات قدراتهم على الصعيدين الوظيفي والاجتماعي، ما يؤدي إلى إنتاج نخب اجتماعية مكوّنة من أطياف المجتمع كافة.
كذلك، توجب العدالة الاجتماعية اعتماد معايير التمييز الإيجابي بين الأفراد، فلا تمييز بين أجور الأفراد الذكور والإناث المتمتعين بذات الأهلية العلمية والوظيفية، ولا تمييز في التقديمات الاجتماعية والإنسانية للمواطنين الأصليين وأولئك المتحدرين من أصول أجنبية، ولا تمييز في الاستفادة من القطاعين العام والخاص بين شخص غير معوّق وشخص معوّق.
أما على مستوى الجماعة، فإنّ العدالة الاجتماعية تعني المساواة في الحقوق السياسية بين مكونات المجتمع الواحد. وبذلك، يتوجب على الدساتير والقوانين الأساسية الحد من تعسف الأغلبية والعمل على حماية حقوق الأقليات الاجتماعية والفكرية عبر اعتماد قوانين انتخابية تسمح للجميع بالمشاركة في الحياة البرلمانية وفي صناعة وصياغة التشريعات الاجتماعية والضريبية والصحية.
ثم تأتي العدالة الاجتماعية، من ناحية ثانية، تطبيقاً لمبدأ الإنصاف، فيؤخذ بعين الاعتبار ليس فقط مكونات المجتمع من أفراد وجماعات، إنّما ينظر إلى الفوارق الطبقية والمالية والثقافية والإنسانية بين أبناء هذا المجتمع. وهي بذلك، تعني العمل على إزالة وتقييد هذا التفاوت في الحقوق والواجبات عبر آليات وتقنيات قانونية وإدارية تخفف من الفوارق الاجتماعية وتضمن للجميع حداً أدنى من العيش الكريم.
من الناحية العملية وتطبيقاً لمبدأ الإنصاف، تتخذ العدالة الاجتماعية شكل التضامن المجتمعي الذي قد يتخذ بدوره أشكالاً متعددة منها الحماية الاجتماعية، والمساعدة الاجتماعية، وكذلك المشاركة في الضمان الاجتماعي.
تعني الحماية الاجتماعية إيجاد مؤسسات وتقنيات هدفها السماح للأفراد بمواجهة المخاطر الاجتماعية. من هنا تأتي القوانين لتعطي جميع الأفراد في المجتمع الحق في الحماية من مخاطر البطالة والشيخوخة والمرض وغيرها. كذلك، تتحقق الحماية الاجتماعية عبر تطوير برامج التنمية المستدامة لتحسين نوعية حياة الفرد.
أما المساعدة الاجتماعية فتكون عبر إقرار قوانين ومراسيم تتيح لغير القادرين على العمل، أو على مجابهة صعوبات الحياة اليومية، حقوقاً في الاستشفاء المجاني، وفي الحصول على مساعدات اجتماعية كتعويضات تؤمن حداً أدنى من الكرامة الإنسانية.
أما التأمين الاجتماعي فيعني إلزام كلّ الأشخاص العاملين في المجتمع بدفع اشتراكات ذات طابع اجتماعي غير ضريبي لتمويل الضمان الصحي الاجتماعي. على سبيل المثال، يلتزم الأجير في فرنسا مثلاً بدفع 2 في المائة من أجره لتغطية أعباء الضمان الاجتماعي ليستفيد منها كلّ أفراد المجتمع مواطنين وأجانب.
من ناحية أخرى، يتطلب الإنصاف إزالة الفوارق الضريبية ومنع الغش الضريبي. وفي هذا الإطار، تسعى الدول إلى اعتماد نظام ضريبي عادل من جهة، وتلجأ إلى تفعيل عمل القطاع العام في مجال الخدمات الأساسية للمواطنين من جهة أخرى. لذلك، تعتمد غالبية الدول المتقدمة نظاماً ضريبياً نسبياً وتصاعدياً يتحمل فيه كلّ أفراد المجتمع واجب الإعلان الشفاف عن أرباحهم ويخضعون لضريبة تتزايد بتزايد أرباحهم الصافية. في مقابل هذه الضريبة، تلتزم الدولة بإفادة الجميع من الخدمات العامة.
يبقى القول إنّ انعدام الأمان الاجتماعي مالياً ووظيفياً للأفراد والجماعات يشكل الأساس لمستقبل غير مستقر، لأنّ المستقبل المقروء بواقعية وموضوعية يبنى على أسس صالحة ومنتجة. أفضل هذه الأسس المساواة في الحقوق بين الأفراد واعتماد مبدأ التضامن المجتمعي.
*دكتور في القانون ومحامٍ بالاستئناف في باريس