تمثّل الطفلة ثلجة نموذجاً حياً لمئات الأطفال المولودين لبدو رحّل في الجزائر. هؤلاء مبرمجون على الرعي والأشغال خارج البيت، منذ صغرهم، مع ما في هذا من حرمان من المدرسة، وربما من التسجيل في السجل المدني.
نبراتها وأحلامها وأوجاعها طالعة من زمن آخر تماماً. تحاول التأكد بينما تحدثها إن كنت فعلاً في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، وفي جزائر احتفلت قبل أسابيع بالذكرى الرابعة والخمسين لاستقلالها الوطني، وتلزم قوانينها الآباء والأمهات بتعليم أولادهم منذ سن السادسة. فثلجة (13 عاماً)، لا تحسن قراءة أو كتابة حرف، بالرغم من قرب الكثير من المدارس من سكنها.
بقدميها الحافيتين يوماً، والمنتعلتين ما يشبه الحذاء يوماً آخر، عادة ما تتبادله مع أخيها الصغير توفيق، وثيابها التي لا تقي جسدها من حر وبرد منطقة الشرق العاصمي، وشعرها المنفوش في الصباح والمضموم بقماشة في المساء، تطلع مع كلّ شروق شمس على أتانها من الخيمة التي تأويها وأسرتها، إلى العمارات المجاورة، لتجمع الخبز اليابس من المنازل علفاً للخراف والماعز والدجاج والإوز والأرانب التي يعيشون على بيع لحومها وبيضها.
ترفع صوتها بعبارة: "ياو الخبز اليابس.. ياو الخبز اليابس"، فتشير إليها إحداهن من شرفتها بالصعود، وترسل لها أخرى الكيس مع طفلها، فيما تفضل كثيرات رميه من الشرفة، فتتلقفه يداها بمهارة عمرها سبع سنوات، وهي السنوات التي كانت ستجعلها على أعتاب المرحلة الثانوية، لو التحقت بمقاعد الدراسة في السن القانونية.
تقول ثلجة إنّها تفضل أن تخرج وحدها لجمع الخبز اليابس، بالرغم من أنّ أخاها وأطفالاً آخرين يفعلون ذلك: "حتى أتمكن من أخذ راحتي، في تأمل البنايات والمركبات والمحال والوجوه، لا بد من الاستمتاع بذلك إلى أقصى حد، قبل أن أبلغ الخامسة عشرة"، وهي العتبة التي "تحجب" فيها الفتاة في البيت، تمهيداً لزواجها.
"طفلة الخبز اليابس"، تعترف بأنّها تتعمّد أن تخرج على أتانها، عند الثامنة صباحاً ومنتصف النهار والخامسة بعد الظهر، وهي الساعات التي يدخل ويخرج فيها تلاميذ المدارس، لتمارس طقساً قريباً إلى قلبها: "أركن أتاني قبالة الثانوية، وأتأمل الصبايا وهن داخلات أو خارجات، حاملات محافظ وهواتف أنيقة ولابسات أزياء متنوعة". تسترسل: "أنسى وضعي عندما أتخيل نفسي بينهن، وأعيش كلّ مرة حكاية، أكون فيها طبيبة في المستقبل أو معلمة أو قائدة طائرة". تشير إلى طائرة تهمّ بالهبوط في "مطار هواري بومدين الدولي" على بعد أميال قليلة: "إذا أصبحت قائدة طائرة، لن أحط على الأرض أبداً".
أحلام ثلجة غير محدودة، لكنّ أحكامها عن مناحي الحياة المختلفة مرتبطة بتربيتها العائلية الضيقة، فهي لم تدخل مدينة الجزائر العاصمة، بالرغم من كونها لا تبعد أكثر من أربعين كيلومتراً، ولم تقصد البحر البعيد عن خيمتها بكيلومترين، ولا تحتفظ ذاكرتها بعنوان لمسلسل كرتوني أو أغنية للأطفال. هذا الوضع يجعلك تشكّ إن كنت فعلاً في مكان فيه كلية للحقوق وكلية للأدب العربي ومسجدان ومتوسطة وثلاث مدارس ابتدائية وثكنتان أمنيتان وعشرات المحال التجارية، إلى آخر مظاهر الحياة المعاصرة التي تفصلها عن خيمة ثلجة، أو عن حياتها الكاملة، مسافة قصيرة.
تشق ثلجة بأتانها أشجاراً خلف المباني التي تقصدها لجمع الخبز اليابس، يجلس تحتها شباب ومراهقون للعب الورق وتعاطي الكحول والحشيش. وما إن تبلغ نهاية المباني السكنية حتى تجد أخاها أو أباها في انتظارها. تعترف أنّ بعض الشبان تحرش بها: "غير أنني لا أخافهم، فمنهم من يدافع عني ويرفض أي إزعاج يطاولني".
من جهته، يرفض والد ثلجة أن يقدم أيّ معلومات، سوى قوله إنّه جاء بأسرته قبل تسع سنوات، من منطقة الحضنة جنوباً، ليشتغل حارساً في مزرعة أحدهم، غير أنّ خلافاً نشب بينهما جعله ينصب خيمة في بقعة غير مأهولة ويستقل بنفسه. تسأله "العربي الجديد" عن سبب حرمان ثلجة من المدرسة، فيضع حداً للقاء وينصرف وهو يذمّ من يسمح لبناته بالدراسة.