تعاني قرية جرف الملح في البصرة بجنوب العراق من الألغام المنتشرة في أرضها منذ حرب الخليج الأولى. هو أثر يزرع رعباً في القرية المهملة، التي باتت تحمل اسم قرية "البتران"، لكثرة من تعرضوا للبتر من أبنائها بسبب تلك المتفجرات.
قد تكون قرية جرف الملح، التي باتت تسميتها الأكثر انتشاراً قرية "البتران"، أغرب مناطق جنوب العراق، وربما الأغرب في الوطن العربي، إذ إنّ كلّ بيت في تلك الرقعة الجغرافية التابعة لمحافظة البصرة، فيه فرد أو أكثر لديه بتر في الساق أو اليد. سكان القرية القريبة من الحدود العراقية الإيرانية، ما زالوا يعانون من أثر الحرب التي وقعت بين البلدين قبل ثلاثين عاماً، وبحسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة، فإنّ أكثر من ألف شخص ما زالوا على قيد الحياة من القرية لديهم بتر، وقبلهم مات خمسة آلاف في الحالة نفسها أيضاً. وفي الوقت الذي تشهد فيه القرية أوضاعاً اقتصادية سيئة، يستمر أهلها بالمطالبة بتوفير الخدمات الأساسية، مثل المياه الصالحة للشرب، وصولاً إلى الأطراف الصناعية، بالرغم من أنّها تتبع أغنى محافظات البلاد.
يقول علي أيسر (36 عاماً)، وهو من سكان القرية وقد بُترت ساقه قبل خمسة أعوام نتيجة انفجار لغم كان مزروعاً في بستان مهجور، إنّ "الوضع الاقتصادي السيئ في القرية، دفعنا إلى العمل بمخلفات الحرب من الحديد والنحاس المتروك، بالإضافة إلى تربية المواشي، ونشهد كلّ أسبوع انفجار لغم بشخص من القرية ليصاب ويصل إلى البتر في النهاية". يضيف أيسر لـ"العربي الجديد"، أنّ "أهل القرية التي تقع بين حي الشلامجة ونهر جاسم، يطالبون الحكومة منذ سنوات بتوفير فريق متخصص بإزالة الألغام، وفي كلّ مرة يجيء فريق ما، ولا يكمل مهامه، إذ لا يزيل كلّ الألغام". يتابع: "الحكومة لا تطلق سوى وعود، وهي وعود لا تصل إلى التنفيذ غالباً، إذ لم تستطع توفير الأطراف الصناعية للمبتورين منذ سنوات، وهي غير متوفرة في المستشفيات العامة، وباهظة الثمن إذا ما أردنا استيرادها من الخارج". يشير إلى أنّ "قرية البتران منسيّة، ولا تشهد أي اهتمامٍ حكومي، ولا يزورها المسؤولون إلّا في أوقات الانتخابات، والوعود نفسها يكررونها في كلّ مرة، ولا يحدث أي تغيير على أرض الواقع".
من جهته، يشير علاء الطائي (53 عاماً)، وقد فقد ساقه وإصبعين من يده اليسرى، إلى أنّ "الطائرات الإيرانية التي ضربت المنطقة خلال أعوام الحرب (1980 - 1988)، لم تترك متراً واحداً من دون تخريبه، واستخدمت حينها الألغام المقذوفة التي بقيت في بساتين القرية حتى الآن. والحكومات العراقية منذ عام 1988، لم تتمكن من رفع هذه الألغام وإنقاذ المواطنين". يوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الفقر الذي أصاب القرية وتحديداً بعد عام 1991، إثر العقوبات الدولية الاقتصادية على العراق نتيجة احتلال الكويت، أثر علينا بنسبة كبيرة، فأجبرنا على البحث عن الحديد والمخلفات الحربية وجمع المعادن الخردة والأسلاك الكهربائية من المعدات العسكرية المهجورة بساحات القتال سابقاً، وبيعها، ولهذا، أصيب كثير من السكان بجروح نتيجة انفجار الألغام".
لم يفلح مركز الأطراف الصناعية في البصرة، الذي أنشئ عام 1995 بمساعدة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في توفير ما يحتاجه المصابون من قرية جرف الملح، إذ لا تخصص الحكومة العراقية أيّ ميزانية مالية لاستيراد أو تصنيع هذه الأطراف، بحسب المسؤول في دائرة صحة البصرة فالح الخيكاني، إذ يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوضع خطير جداً في القرية، فلا يسمح الأهالي لأبنائهم باللعب والخروج إلى الساحات البعيدة عن بيوتهم بسبب الألغام"، مؤكداً أنّ "الألغام ما زالت تملأ المنطقة، والجهود الحكومية تكاد تكون معدومة".
يتابع الخيكاني: "المقذوفات الحربية ما زالت موجودة، بالإضافة إلى آلاف الألغام، حتى أنّها تسمم التربة وتسبب أمراضاً كثيرة مثل السرطان. لم تعد الأراضي صالحة للزراعة. هناك قنابل عنقودية تنفجر وحدها أحياناً بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال فصل الصيف". يشير إلى أنّ "الإحصاءات الرسمية للمصابين بسبب الألغام، لدى وزارة الصحة العراقية، لا توضح حقيقة الأعداد الكبيرة التي تشهد عليها مراجعة الدوائر الطبية في البصرة، فالوزارة تقول إنّهم مئات قليلة، لكنّهم في الحقيقة أكثر من ألف شخص تعرضوا للبتر جراء انفجار القنابل، وما زالوا على قيد الحياة، ويعيشون وسط أجواء سيئة وغير صحية".
يشار إلى أنّ وزارة الصحة أعلنت قبل أيام، عن تنفيذ فريق طبي من قسم العمليات والخدمات الطبية المتخصصة بالتنسيق مع مركز الأطراف الصناعية التابع لدائرة صحة البصرة، حملة صحية في قرية جرف الملح، في قضاء شط العرب، شرقي المحافظة، للاطلاع على الوضع الصحي للمواطنين ممن لديهم بتر جراء المخلفات الحربية. وكان مسؤولون في الوزارة نفسها قد أعلنوا في بيان عام 2013، أنّ "الوزارة ملزمة حتى العام 2018 بإزالة جميع الألغام والذخائر في مدينة البصرة"، لكنّ مدير "المركز الإقليمي لشؤون الألغام في المنطقة الجنوبية" نبراس التميمي، كشف أنّ "الدولة العراقية تحتاج إلى أكثر من 50 عاماً أخرى لرفع ما تبقى من ألغام الحروب وذخائرها المنتشرة بمناطق جنوب البصرة وشرقها"، أي ما يمتد إلى عام 2068.
بدوره، يؤكد المسؤول المحلي في البصرة، وعد المنصوري، لـ"العربي الجديد"، أنّ "مجلس المحافظة لا يملك أيّ أموال لتنظيف المدينة من الألغام والمقذوفات النارية والمتفجرات، وهو الأمر الوحيد الذي ندافع به عن أنفسنا، كون أهالي القرية يظنون أنّنا نملك الصلاحية والميزانية المالية التي تؤهلنا لرفع المتفجرات عن أراضيهم". يلفت إلى أنّ "الطلبات المحلية للحكومة المركزية توقفت منذ بداية العام الجاري، وذلك بسبب الإهمال، إذ لم تجب الحكومة في بغداد على أيّ من طلباتنا في شأن استيراد فرق خاصة لرفع الألغام، والأعمال الإغاثية التي تجري في قرية جرف الملح، لا تعدو كونها جهوداً فردية من منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع مؤسسات إنسانية دولية، وهذه الأعمال على الرغم من أهميتها لا تكفي لرفع الظلم عن الأهالي. يطالب الأهالي المتضررون من المتفجرات برواتب الرعاية الاجتماعية، وقد سجلنا أسماء الذين أصيبوا ورفعناها إلى وزارات الدولة المعنية، ومنها وزارة الصحة ووزارة العمل ووزارة المالية، بوصفهم من الأشخاص ذوي الإعاقة، لكن لا استجابة بعد من أيّ وزارة".