الأغاني اليمنية التي تتناول الغربة، من أدوات مواساة التوّاقين إلى العودة إلى الديار. هذا ما يؤكده عبدالكبير باحميد.
"لم أشبع من أبنائي وأحفادي، لبقائي بعيداً عنهم خارج الوطن لعقود. زياراتي لطالما كانت متباعدة ولفترات قصيرة". بألم يتحدّث عبدالكبير سالم باحميد (60 عاماً)، فيما تسرد تجاعيد وجهه العميقة وحدها معاناة سنوات طويلة من الغربة قاربت نصف قرن، قضاها في جدّة السعودية وما زال، في وقت تقطن أسرته في محافظة حضرموت (شرق اليمن).
أثناء حكم العائلة الكثيرية لمنطقة حضرموت في عام 1966، ترك باحميد الذي كان في الرابعة عشرة منزله في مسقط رأسه في منطقة مدودة القريبة من مدينة سيئون في حضرموت، متوجهاً إلى السعودية للعمل ومساعدة والده في توفير حياة كريمة لأفراد الأسرة. هكذا، التحق بملايين اليمنيين هناك الذين درجوا على مغادرة ديارهم وترك أحبتهم بهدف العمل وكسب الرزق.
"لم أغادر بلدي وأهجر أحبتي من أجل نفسي، وإنما لإسعاد أفراد أسرتي". يحرص باحميد على تكرار هذا الكلام الذي يتبعه بتنهيدة طويلة، كأنه يخرج بها جزءاً من آلامه وهو يسرد مشوار حياته. هو تكبد عناء التضحية وهموم الاغتراب لتلبية الاحتياجات المعيشية لأفراد أسرته، بدءاً من أبويه وأخيه وانتهاء بزوجته وأولاده الخمسة الذين لا يراهم إلا مرة كل سنتين أو ثلاث مرات ولفترات لا تتجاوز شهراً أو شهرين. "نذرت نفسي لأبي وأمي وأخي، وبعدما تزوّجت لزوجتي وأولادي الذين تزيد احتياجاتهم مع مراحل نشأتهم. لذا صمدت في غربتي من أجل إسعادهم وتلبية احتياجاتهم. ولو كانت غربتي من أجلي شخصياً، لكنت تزوجت هنا وكوّنت لي أسرة وصارت حالي أفضل".
اقرأ أيضاً: صنعاء في انتظار الأسوأ
عندما يقطع باحميد المسافات لزيارة أسرته، يظنّ الجميع أنه سعيد بأسفاره. لا أحد يدري بألم وحدته ومشاكله. ويروي عذابات المغترب اليمني الذي ضحى بسعادته من أجل العمل، مشدداً على العذاب الذي ينهش من يستمر في غربته أكثر من نصف قرن. "اليمنيون أكثرهم يغتربون سنوات معدودة سعياً إلى توفير مبالغ تساعدهم على إنشاء مشاريع خاصة أو بناء منزل، ليعودوا إلى أسرهم الدافئة. لكنني، حتى اليوم، ما زلت متمسكاً بالغربة على الرغم من تقدمي في السنّ، إذ لم تنتهِ التزاماتي بعد". على الرغم من أن أولاده الأربعة لم يعودوا صغاراً، "إلا أنهم ما زالوا عاجزين عن توفير احتياجاتهم المعيشية نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي سببتها الحرب في اليمن. منهم من يعمل بمرتبات زهيدة، ومنهم من يعاني من البطالة".
ربّ عمله الأول عرض عليه فرصة متابعة تعليمه في مقابل خفض راتبه الشهري. لكنه فضّل ترك التعليم كي يستفيد من المبلغ الإضافي الذي يحصل عليه. "تركت التعليم في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية، والهدف استغلال وقتي لجمع المال وإرساله إلى اليمن حتى يستفيد منه أهلي". لكنه في الوقت ذاته، أكسبه عمله في مكتبة خلال أكثر من خمسين عاماً، ما لم يكتسبه بعض المتعلمين. "قرأت الكثير من الكتب والمؤلفات التي تباع في المكتبة".
كانت مدينة الرياض أولى محطات باحميد، التي بدأ فيها عمله كـ"صبي بيت" يهتم بخدمة إحدى الأسر السعودية الحضرمية الأصل، باعتباره صغير السن. لكن هذا العمل لم يدم طويلاً. وبعد عام فقط، حاول البحث عن أعمال مشابهة من دون جدوى. لا عمل في خدمة المنازل لمن تجاوز سنه خمس عشرة سنة. وبعد فترة قصيرة، راح يعمل في إحدى مكتبات مدينة جدّة الساحلية، وما زال، حتى اليوم منذ عام 1967.
في عام 1969 تزوج باحميد في قريته، وكان عمره 18 عاماً، لكنه عاد إلى الغربة سريعاً، تاركاً عروسه مع والديه. "مرّت سنوات الغربة وأنا بعيد". لكنه يقدّر "التكنولوجيا الحديثة التي قرّبت البعيد". يستطيع اليوم التواصل مع أبنائه وأفراد أسرته في أي وقت صوتاً وصورة، عبر الإنترنت، "بعدما كنت انقطع عن أسرتي فترات طويلة لصعوبة التواصل".
في زيارته الأخيرة البلاد، "لم يشأ أبنائي أن أعود إلى السعودية. حاولوا إقناعي بالمكوث معهم، إذ تقدمت في السن وفي حاجة إلى الراحة، فيما هم يحتاجونني إلى جوارهم. لكنني لم أستطع. وشعرت بضرورة إتمام مشوار الغربة للمرة الأخيرة". هو يبني منزلاً في حضرموت، ومن الضروري استمراره في العمل حتى ينتهي من ذلك. "هكذا أستطيع قضاء ما تبقى من عمري بين أبنائي".
الاغتراب عن الوطن والأهل صعب بالنسبة إلى باحميد، فيما يتعامل يمنيون كثر مع ذلك كأنه نزهة أو جنة للعاطلين من العمل ولمن لا يملك مصدراً آخر للدخل. "لكنهم وبمجرد خروجهم من وطنهم ومفارقتهم أهاليهم وأصدقائهم، سرعان ما يدركون صعوبة الغربة وقسوة الفراق. صحيح أنّ الغربة كُربة، إلا أنها نعمة إذا كانت لإسعاد الآخرين، حتى وإن طالت".
اقرأ أيضاً: بؤس اليمن السعيد