تعود اللقطات المتتالية لتتسارع في ذهنها وتُشكّل ذلك المشهد من جديد... بعد عقود من الزمن. تفاصيل كثيرة كانت قد سقطت من تلك الظهيرة. يومها، كانت لا تزال طفلة/ مراهقة بلغت عامها الرابع عشر قبل أقلّ من اثنتَين وسبعين ساعة. تذكر جيّداً ذلك التاريخ، وتعود اللقطات المتتالية. طابور من السيّارات عند حاجز تفتيش استحدثتَه عناصر مليشياويّة قبل دقائق فقط على مقربة من بيروت. في السيّارة، يسود الصمت الذي تخرقه الأنباء العاجلة فيما تُحبَس الأنفاس ذهولاً. هي، في المقعد الخلفيّ لجهة السائق، تراقب من النافذة المسلّح المقنّع -يُوصف بـ"المْلَتَّمْ" في لهجة أهل لبنان- الذي راحت صورته تتّضح أكثر فأكثر كلّما اقتربوا من ذلك الحاجز. قميص قطنيّ أبيض وقناع أسود، فيما لم توثّق ذاكرتها سرواله ولا حذاءه. حركة أصابعه المرتعشة على بندقيّته الحربيّة اجتذبت ناظرَيها. لم تعلم في يوم ما هو نوعها... ربّما كان "كلاشنكوف" أو "إم 16". من يدري؟! في خلال ثوانٍ معدودة، تجحظ عينا المسلّح نحو زجاج السيّارة الأماميّ حيث أُلصق علم لبنانيّ صغير، ثمّ يلقّم بندقيّته الحربيّة قبل أن يخرج السائق من المسرب صائحاً بالراكبات الثلاث أن يخفضنَ رؤوسهنّ. هو كذلك أخفض رأسه ضاغطاً على دوّاسة البنزين ليتقدّموا بسرعة جنونيّة نحو "المجهول"، فيما الرصاص يُطلق رشقات رشقات في اتّجاههم.
ثوانٍ كأنّها دهر، وكُتب لها ولوالدَيها وقريبتهم عمر جديد. أمّا ذلك الحاجز فاستُبدل، بعد ساعات معدودة، بساتر ترابيّ تمترس خلفه قنّاص، لا بل قنّاصة تلذّذوا في اصطياد عدد لا بأس به من أبناء جلدتهم لم يرق لهم لسبب أو لآخر. وقُطّعت أوصال الوطن من ناحية جديدة. كَثُر الرصاص في الأيّام والأشهر التالية، وكذلك القذائف، غير أنّ الأخيرة لم تفزعها قطّ. هي اعتادتها منذ طفولتها المبكرة، ثمّ راحت ترصدها وتجمع شظاياها. هوايتان في زمن الحرب. انتهت تلك الحرب، هكذا قيل، فيما أزيز الرصاص ظلّ يستنفر انفعالاتها، لتُوفَّق في كلّ مرّة بالتحكّم في نوبة هلع مفترضة.
في جولات متقطّعة اليوم، يعود الرصاص ليستجلب لقطات ذلك المشهد. مشهد ظنّت أنّه ضاع بين مشاهد أخرى كثيرة مُرّة وحلوة تباينت ما بين خيبات وحبّ ونجاح وخطوات متعثّرة وغيرها، إلا أنّ اللقطات المتتالية تلك تعود. فتحاول جاهدة لجم انفعالاتها. يتكرّر إطلاق الرصاص وتتكرّر محاولاتها وسط فزع من سواتر ترابيّة محتملة قد تعلو في مناطق أو أخرى فتعيد تقطيع أوصال وطنٍ تحت رحمة "ملتّم" وقنّاص. ارتياع مبرّر لها... ولسواها. لا شكّ في أنّه ينتاب كثيرين. رصاص الحرب اللبنانية -لعلّ الحروب اللبنانيّة أصدق تعبيراً هنا- كما سواترها الترابيّة ما زالا ماثلَين في أذهان جيل بأكمله سُمّي "جيل الحرب"، لا بل في أذهان أجيال اختلفت مواقعها وأدوارها في زمن سعى كثيرون إلى شطبه من الذاكرة. لم يفلحوا. رصاصة واحدة تكفي لاستحضار الجراح... جراح لم تندمل بعد.