يتحدث وزير الخارجية المغربي الأسبق ورئيس بلدية أصيلة، محمد بنعيسى، عن المهرجان السنوي الذي يرعاه بكثير من الفخر أمام ضيوفه. ولا يخفي سراً أمامهم حين يصرّح بأن الملك الراحل الحسن الثاني طلب منه أن يجعل من مدينة أصيلة ومن مهرجانها فضاءً للحرية والنقاش المفتوح بدون حدود ولا سياجات. ويذكر لمجالسيه أن الملك الراحل طلب منه أن يجعل هذا المهرجان بمثابة هايدبارك المغرب.
وهكذا شكل موسم أصيلة الثقافي الذي يقام صيف كل عام، بفضل رؤية تستند إلى المزج بين الاحتفاء بالثقافة المغربية وجوارها الأوروبي ومحيطها الأفريقي وأفقها العالمي، ذلك الانفتاح، الذي بدأ في زمن ثقافي وسياسي مغربي لم يكن فيه سهلا على محمد بنعيسى، الذي كان آنذاك وزيراً للثقافة، إقناع النخب الثقافية المغربية، اليسارية الهوى والانتماء، بالعمل معه في مشروعه الحالم هذا، المبارك من طرف أعلى سلطة في البلاد.
لكن صبر الرجل، وتغير الفضاء السياسي المغربي والإبدالات التي وقعت في مفهوم العمل الثقافي نفسه، ستدفع إلى القبول التدريجي بهذا المهرجان، الذي ولد وكأن ملعقة من ذهب في فمه، والذي نعت حينها بأن برامجه وفلسفته قائمة على الاستهلاك الخارجي، وغير مرتبطة بمشروع ثقافي مؤسس على حاجات الثقافة المغربية.
ومنذ أيام انطلق موسم أصيلة الثقافي في دورته الـ39، ومنذ انطلاقه في سنة 1978 لم يتوقف إلا مرة واحدة، مواصلا خلال هذا العمر الطويل تجسيد تجربة ثقافية منفتحة على الجهات الأربع من العالم.
لم ييأس بنعيسى أو يمل أو يداخله شك في أن ما يقوم به بدون جدوى، بل كان دائماً متأهباً وحاضراً في مفاصل المهرجان، طابعاً إياه بأسلوبه الخاص، متابعاً التفاصيل والدقائق، مسيراً الندوات ومؤطراً ومتدخلاً ومعقباً ومنشطاً للأمسيات وحريصاً على ضيوفه، حتى أن سهام النقد التي كانت تطاوله استطاع أن يطبّع معها، وأن يعتبرها جزءاً من يوميات مهرجان كبير يقام على خاصرة الأطلسي ويتطلع بالقضايا التي يطرحها إلى العالم الأرحب ومشكلاته وتعقيداته.
في هذا المكان مرّ أغلب المثقفين، وتنازل المقاطعون للموسم، وأصبحوا جزءاً من النسيج العام للمشهد البشري الذي يحضر إلى المدينة، منصتاً أو متتبعاً أو مشاركاً أو سائحاً فقط. فأصيلة مدينة جميلة، وبيوتها القديمة وأزقتها متاهات طيبة للقاء الذات والحديث إلى النفس والاستشفاء من ثقل الحياة.
وفي الساحات وبين أرصفة المقاهي وداخل دروب المدينة تتحول أصيلة إلى مهرجان كبير، ويتحول المهرجان إلى أصيلة تموج بالبشر والحكايات وكأنها ملتقى طرق يعبر منها الجميع كل إلى وجهته.
لو كان في كل مدينة مغربية مهرجان ثقافي من عيار موسم أصيلة لكانت المدن على الأقل "نظيفة" وسمحة وقابلة للتعايش، وليست شرسة وحادة الطباع مثل مدينة أخطبوطية كالدار البيضاء لا حياة ثقافية فيها.
يفخر بنعيسى بأن الموسم الثقافي السنوي جعل من أصيلة مدينة معروفة في العالم، ومن حقه ذلك، فالكثير من المسؤولين ومن رؤساء البلديات حولوا مدنهم التي يشرفون على تسييرها إلى مدن سوداء ومسلوخة، لا هوية لها ولا عمق، وحتى عندما "فكروا" في المهرجانات والمواسم أتوا شيئاً فرياً.
يعطي موسم أصيلة لمتتبعه الوفي فرصة للتفكير وللتعلم. إنه بمثابة جامعة صيفية، تأتي إلى فصولها خفيفاً بالشورت، مثلاً، وبقلم الرصاص ودفتر الملاحظات كي تنصت وتدون وتشارك في النقاش من مقعد الجمهور، وأحياناً تتحول المنصة رباعية الأضلاع إلى استدعاء غير رسمي للمشاركة في المنتدى العام دون أن تكون هناك تلك الفواصل التي تشيدها المنصات المتعالية.
جدار واحد في المدينة يمنح مادة للكتابة. إن أشياء كثيرة هنا في هذا المكان موشومة ومدموغة، ويمكن بأبسط نظرة استغوارها والذهاب عميقاً في مساءلتها. في أصيلة، أيضاً، الحدائق التي تحمل أسماء المثقفين، أصدقاء المهرجان. هناك حديقة تشيكايا أوتامسي وحديقة محمد عزيز الحبابي وحديقة الطيب صالح وحديقة محمود درويش.. أليس هذا أفضل من ألا تكون هناك حديقة أصلاً، وأن تكون المدن موحشة وغابة إسمنت؟
نظرة تاريخية
اسم مدينة أصيلة التاريخي، هو زيليس، وهو اسم روماني، ولذلك يقال لسكان المدينة الزيلاشيون نسبة إلى اسمها القديم. وهي قلعة بحرية محصنة، شيدها البرتغاليون خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر وتحولت إلى قلعة محصنة ذات أسوار منيعة وأبراج مليئة بالمدافع ومختلف الأسلحة النارية. وانطلق منها البرتغاليون مرات عديدة للإغارة على سكان المناطق المجاورة، للاستيلاء على السهول والجبال القريبة منها، حيث يوجد نهر الليكسوس.
وقد اندحر ملك البرتغال الدون سباستيان الأول، بجيوشه هنا، حيث نزل على رأس جيش قوامه 20 ألف مقاتل، وأراد أن يتقدم من أصيلة إلى القصر الكبير فاعترضه الجيش المغربي عند وادي المخازن وسحقه سحقا، وقُتل سباستيان وحليفه محمد المسلوخ وعدد كبير من قواد البرتغال وكبرائهم.
وقد سميت هذه المعركة بمعركة وادي المخازن، وهي تعتبر من المعارك الملحمية التي خاضها الجيش المغربي، وخلدتها ذاكرة الشعراء والكتاب، ومنها الملحمة الشعرية "معركة الملوك الثلاثة"، التي كتبها الشاعرالمغربي علي الصقلي. وقد شارك في هذه المعركة الفاصلة ثلاثة ملوك، هم الملك المغربي السلطان أحمد السعدي، إضافة إلى ملك إسبانيا وملك البرتغال.
وإزاء هذا النصر لم يسع إسبانيا التي اتحدت مع البرتغال إلا أن تسلم أصيلة إلى السلطان أحمد المنصور السعدي في ذي القعدة 979 هـ (1589م)، فانسحب منها المحتلون وحل فيها محلهم بأمر السلطان سكان جدد أتى أكثرهم من ناحية الريف، كما حدث في طنجة والعرائش بعد تحريرهما.
وقد كان بالإمكان القيام برحلة بحرية في ذلك الوقت، من مدينة أصيلة إلى مدينة آسفي، أو الجديدة، في أقل من ساعة، بسبب الخط البحري السهل وبسبب الرياح المساعدة على الإبحار، في حين كانت تتطلب المسافة البرية إلى هذه المدن على ظهور الخيول والبغال، أكثر من مسيرة يومين كاملين.
وأخبار أصيلة ليست كلها سياسية حربية، بل كان لها نصيب من العلم والثقافة، وظهر فيها بعض الشعراء وعلماء الدين، أمثال الشاعر إبراهيم بن محمد الأصيلي، الذي نقل ياقوت الحموي في معجم البلدان قطعة من شعره في هجاء مدينة فاس وولده محمد، ومنزلته في العلم والفقه بالأندلس منزلة بن أبي زيد القيرواني بأفريقيا، وهو أصل أسرة الأصيلي التي أنجبت في الأندلس في ما بعد عددا من العلماء الأفذاذ. كما كان مرسى أصيلة محورا من محاور التجارة الخارجية، ترد إليه السفن من مختلف موانئ شبه جزيرة إيبيريا ومن جنوى وبيزا والبندقية في إيطاليا، ومن مرسيليا في فرنسا، محملة بالبضائع الأوروبية وناقلة منه إلى أوروبا بضائع المغرب وغلاله.
وعاش فيها الإمام الأصلي، وهو علّامة وفقيه وقاض، لا يزال ضريحه موجودا فيها، خارج السور، وقد عرف بعلمه وورعه وتقواه. وللإمام الأصيلي عدة أحكام وفتاوى تبين مقدار تشبثه بالعلوم الشرعية وسعه أفقه المعرفي من داخل المذهب السني.