المدينة العتيقة في صفاقس، إحدى المحافظات التونسية الجنوبية، تختزل 1200 عام من التاريخ بسورها الكبير وجوامعها وبيوتها ومقاهيها القديمة. وقد ظل سكانها الأصليون أوفياء لها لسنوات طويلة، وجعلوها أكثر حيوية بحرفهم وصناعاتهم اليدوية وغيرها. سكن معظم هؤلاء في الطوابق العليا لمحالهم الصغيرة المنتشرة في شوارع المدينة، حتى يكونوا قريبين من مصادر أرزاقهم، ويحافظوا على جمال مساكنهم التي شيدت قبل أكثر من 20 عاماً.
اليوم، باتت تلك البيوت، حالُها حال بيوت أخرى في المدن العتيقة في المحافظات الأخرى، آيلة للسقوط. أمرٌ دفع بأهالي المدينة العتيقة في صفاقس إلى هجرها واللجوء إلى بناء مساكن جديدة محاذية لمدينتهم، محافظين في الوقت نفسه على محالهم الصغيرة. أما آخرون، فقد اختاروا تأجيرها للوافدين من المدن والقرى المجاورة الباحثين عن عمل. في هذا السياق، يقول محمد القرقوري، أحد تجار المدينة العتيقة، إنّ إقامة السكان الجدد في المنطقة خلقت مشاكل جديدة في المدينة لم نكن نشهدها في السابق، الأمر الذي حثّ السكان الأصليين على هجر المدينة ومحالهم، والبحث عن مناطق جديدة في المحافظة للسكن". يضيف أن "كلامه لا ينمّ عن عنصرية. لكن خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، شهدت المدينة العتيقة توافداً لمئات الشباب الباحثين عن عمل، وبات بعضهم يساهم في الفوضى، ما دفع بسكان المدينة إلى الانتقال للعيش في مناطق أخرى".
أما منير أحد السكان المدينة العتيقة، فيشير بدوره إلى أن "اكتظاظ المدينة خلق مشاكل عدة، جعلت البعض يختار ترك المدينة". يضيف: "عدا ذلك، شهدت غالبية الحرف والصناعات اليدوية تراجعاً كبيراً نتيجة ما تمر به البلاد من أزمات، دفعت البعض إلى ممارسة أعمال يدوية أخرى كالعمل في البناء أو الأعمال الحرة وغيرها".
بموازاة ذلك، يُشير سكان المنطقة بغالبيتهم إلى أن تلك المباني لم تعد تنفع للسكن. وبما أن الترميم مكلف ويفوق قدرة المواطنين، فضل البعض الانتقال للعيش في مساكن جديدة، في ظل عدم القدرة أيضاً على هدم تلك البيوت التي شيدت فوق دكاكين عدد كبير من الحرفيين والتجار وصغار الصناعيين.
من جهته، يشير صالح بوعزيز وهو أيضاً من السكان، إلى أن "بيوتاً عديدة هجرها سكانها خشية سقوطها، في ظل عجزهم عن هدمها بسبب ضيق الشوارع وصعوبة دخول الجرافات، بالإضافة إلى رغبتهم في الحفاظ على محالهم، تحوّلت إلى ملاجئ للمشردين. وكثرت شكاوى السكان وأصحاب المحال المجاورة لهذه المباني خلال الآونة الأخيرة. ويخشى هؤلاء من التعرّض للمضايقات وغيرها، خصوصاً مع غياب المتابعة الدورية من قبل المصالح البلدية والأمنية. ويشدّد بو عزيز على ضرورة أن تتحمل السلطات المحلية المسؤولية، وهدم البيوت الآيلة للسقوط أو ترميمها.
وكانت وزارة أملاك الدولة قد اتكلت على المواطنين لترميم بيوتهم أو هدمها، خصوصاً أن الدولة غير قادرة اليوم على توفير اعتمادات مالية هامة للقيام بعمليات الترميم أو الهدم. وتعمل الحكومة، بهدف الحفاظ على التراث وبعض المباني المصنفة ضمن المباني الأثرية، على ترميمها من خلال تخصيص اعتمادات.
في هذا السياق، يشير مدير مراقبة البناء في الإدارة العامة للجماعات المحلية العامة كمال القومري، إلى ضرورة تحمّل المصالح البلدية مسؤولية الترميم، في حال عدم التزام المالك بالمهلة المحددة، وذلك بهدف ضمان سلامة المواطنين، على أن يتحمل المالك المصاريف في وقت لاحق. لكن ذلك يعد صعباً بسبب عدم وجود إمكانات كافية لترميم عدد كبير من تلك المباني أو هدمها.
وتجدر الإشارة إلى أن القانون رقم 77 الصادر عام 2004، والمتعلق بالصندوق الوطني لتحسين المسكن، ينص على أنه عادة ما تنتفع منه جميع الأطراف من مالكين وجماعات محلية ومؤسسات ومتخصصين في أعمال الترميم. كذلك، ينص الفصل الأول من القانون على تمويل عمليات الصيانة والترميم التي يتولاها المالكون، وتمويل أعمال الترميم التي تتولاها الجماعات المحلية، وتوفير مرافق ضرورية لمبانٍ معدة أساساً للسكن، بالنيابة عن أصحابها وعلى نفقتهم، بالإضافة إلى أعمال هدم المباني المهددة بالسقوط درءاً للخطر وإزالة أنقاضها، وذلك في إطار برنامج مصادق عليه، فضلاً عن الأشغال الهادفة إلى تحسين ظروف سكن المواطنين والمحيط العمراني الذي يعيشون فيه.
أما مشروع قانون عام 2010، فقد نص على إلزام أصحاب البيوت الآيلة للسقوط بترميمها أو هدمها خوفاً على حياة المواطنين، لكن لم يبحث فيه.
اقرأ أيضاً: أطفال الإرهابيّين ضحايا أبرياء في تونس