حازت عادة جمع الكتب مكانة خاصة في تاريخ البشرية، منذ اختراع الكتابة في الحضارات الشرقية القديمة قبل خمسة آلاف سنة، حين كانت "الكتب" ما تزال ألواحاً طينية، ثم أتى هوس الملوك والحكام بها وتأسست مكتبات ملكية في الشرق الأدنى القديم، ولم تمنع ندرتها المقتدرين من إقامة مكتبات خاصة وعامة في حضارات عدة مثل اليونان وروما، وصولاً إلى المكتبات الرهبانية المسيحية الأولى.
حول "عمارة المكتبات في العالم القديم وزخارفها" يلقي اليوم أستاذ الآثار اليونانية صبحي عاشور، محاضرة في مكتبة الإسكندرية، وهو موضوع يمسّ علامة فارقة في تاريخ العصور القديمة، فبدراسة هذه المكتبات تدرس العلاقة بينها وبين القراءة ومحو الأمية في ذلك الزمن، وعلاقة السلطة بالكتاب التي اختلفت عبر العصور، حين جرى الانتباه إلى أن الكتاب نفسه سلطة ولا يمكن بالتالي الاستهانة به.
ومن خلال البحث في تاريخ المكتبات القديمة، يمكن أيضاً اكتشاف محتوياتها وطرق تصنيفها وكيف كانت الكتب تقتنى، وما هي طبيعة النشر في العالم القديم اليوناني والروماني والمصري وفي بلاد الرافدين. تتكوّن المجموعات الأولى من هذه المكتبات في بلاد ما بين النهرين، حيث "مكتبة الألواح المسمارية" التي تعود إلى الملك آشور بانيبال (668-627 ق.م)، وعلى الرغم من أن وجود المكتبات في بلاد ما بين النهرين يسبق آشور بانيبال، لكن مشروعه الذي أسّسه في نينوى يختلف عن سابقيه لجهة الفهرسة والنوع، مما يجعله أقرب إلى المكتبة الحقيقية، حيث كان يعرض فيها أكثر من عشرين ألف لوح طيني يوجد كثير منها اليوم في المتحف البريطاني في لندن.
أما مكتبة الإسكندرية فتعتبر من بين المكتبات الأسطورية في العالم القديم على الرغم من أن التاريخ لم يعاملها كما تستحق، من ذلك أنها فقدت كثيراً من كتبها أثناء نشوب حريق ينسبه مؤرخون إلى قيصر، أسس المكتبة بطليموس بن لاجوس في الأكاديمية الملكية "الموسيون" التي تقع بالقرب من القصر، والتي تطورت مع تطور المدينة وأصبحت مقصد طلاب العلم من مختلف الشعوب والأديان. طلب بطليموس من علماء يونانيين القدوم إلى المدينة، وكتابة أعمال يوريبديس وسوفوكليس وهوميروس على أوراق البردي التي لم تكن توجد إلا في دلتا النيل الخصبة، وهكذا جرى الحفاظ على الملاحم والتراجيديات اليونانية، في مكتبة ضمّت سبعمائة ألف لفافة أضافت إليها كليوباترا السابعة نحو مائتي ألف لفافة أخرى.
من أشهر مكتبات العصر القديم أيضاً مكتبة سيلسوس في مدينة إفسوس في الأناضول، التي أقيمت من الرخام تكريماً لذكرى عضو مجلس الشيوخ الروماني سيلسوس الأب فبناها ابنه على اسمه مستخدماً ميراثه من أبيه، وتعد عمارة المكتبة تصوراً أولياً للمكتبة العامة كما نعرفها اليوم، ففيها قاعات للكتب وأخرى يتحدث فيها العلماء ويلقي الشعراء قصائدهم. وعلى الرغم من عدم وجود نظام للفهرسة فيها، تقول التخمينات التاريخية إنها كانت موطناً لما بين تسعة آلاف واثني عشر ألف كتاب. وقد تم بناء ما يشيه الغاليري بين الجدار الأول والثاني للمكتبة بهدف حماية الكتب من الرطوبة. وفي واجهة المكتبة وضعت تماثيل لأربع نساء يمثلن الحكمة والأخلاق والذكاء والمعرفة، رغم عمرها القصير (150 سنة) تعرّضت المكتبة للحرق والنهب والتدمير في مناسبات مختلفة.
لا شك أن الحديث عن المكتبات القديمة والحرص على تأسيسها رغم صعوبات ذلك، يجعلنا نفكر اليوم في بلدان تغلق المكتبات العامة فيها لتخفيف الإنفاق، وبلدان أخرى تهدم فيها المكتبات وتحرق محتوياتها وتدمر مبانيها وآثارها في حروب مستعرة وتتجدّد، حدث هذا طيلة الوقت وكانت المكتبات والكتب تعود مثل طائر الفينيق القادر على الرجوع من الموت.