إنّ كتابة قصيدة تستحق القراءة والذِّكر لهي هِبةٌ من القدر، وإن حدثت فهي تحدث لعدد محدّد من البشر دونما اعتبار للقوانين والرغبات، وحتى هؤلاء قد تتحقّق لهم في مرّات معدودة خلال حياتهم. لربما كان هذا شيئاً جيّداً؛ فلو شاعت هذه الظاهرة أكثر لغرقنا في فيض من تلك الرسائل الشعرية الذاتية وذات الطابع الخاص، لسوء حظّنا جميعاً. باسكاوالي أيضاً حدثت له في مرّات قليلة، وكان وعيه بوجود قصيدة في ذهنه جاهزةً للالتقاط من سحابة أفكاره وتثبيتها على ورقة مثل فراشة، يرافقه إحساس غريب، وتغشاه هالة تشبه تلك التي تسبق نوبات الصرع: في كل مرّة كان يسمع صفيراً بعيداً في أذنه، وتسري رعشة في جسده من قمّة رأسه إلى أخمص قدمَيه.
يختفي الصفير وكذلك الرعشة في لحظات، ويجد نفسه صافي الذهن، ويتجسّد جوهرُ القصيدة واضحاً وجلياً؛ وما عليه إلّا أن يكتبه لتنثال باقي السطور حولها مطواعة وجزلة. يُنجز العمل في غضون ربع ساعة: لكن هذا النور الخاطف، هذه العملية الآنية التي يتعاقب فيها الحبل والولادة مثل البرق والرعد لم تتأتَّ لباسكاوالي إلّا خمس أو ستّ مرات في حياته. ولحسن الحظ فإن الشعر ليس مهنته: فهو يعمل في وظيفة مكتبية مضجرة ومملّة.
أحسّ بالأعراض المذكورة أعلاه بعد سنتَين من توقّفه عن الكتابة وأثناء جلوسه وراء مكتبه مراجعاً بوليصة تأمين. في الواقع، أحسّ بها بكثافة غير مسبوقة: فقد كان الصفير حادّاً والرجفةُ أقربَ إلى تشنّج متواصل، مخلّفاً شعوراً بالدوار. البيت الرئيسي كان هناك أمامه، وكأنه مكتوب على الجدار أو داخل جمجمته. زملاؤه وراء الطاولات المجاورة لم يلحظوا شيئاً. ركّز باسكاوالي بضراوة على الورقة قبالته: ومن قلب القصيدة التي أشعّت في حواسه تمدّدت أجزاؤها مثل أعضاء الجسد تتفرّع من الجذع، وسريعاً تشكّلت كاملةً وهي تنبض كجسم حي.
كانت أجمل قصيدة كتبها باسكاوالي على الإطلاق. تقبع هناك أمام عينيه من دون تحرير، الخطُّ الذي دوّنه بها ممتدّ وأنيق وسلس: وكأن ورقة الطباعة التي كُتبت عليها بالكاد تحتمل ثقلها، أو مثل عمود ناحل ينوء تحت ثقل تمثال ضخم. كانت الساعة السادسة: فأقفل باسكاوالي على القصيدة في درجه وعاد إلى منزله. وبدا له أنه يستحق مكافأة، وهكذا ابتاع مثلجات لنفسه في الطريق.
في الصباح التالي توجَّه إلى مكتبه سريعاً. كان يتطلّع بقليل صبر لإعادة قراءة القصيدة، لأنه يُدرك جيّداً صعوبة تقييم عمل كُتب للتو: سواء لحملِهِ قيمة ومعنى، أو لخلوِّه منهما، وذلك لا يتّضح إلّا في النهار التالي للكتابة. فَتح الدرج ولم يجد الورقة: مع أنه كان متيقّناً أنه تركها فوق رزمة الأوراق. بحث بهلع في البداية، ثم بتركيز أكبر، لكنه اضطر في النهاية أن يواجه حقيقة أنها اختفت. فتّش في الدرج الآخر، ثم لاحظ فيما بعد أن القصيدة كانت أمامه هناك، فوق كومة البريد الوارد. يا للحيل التي يلعبها معنا تشتّت الانتباه! ولكن كيف له ألّا يكون مشتَّتاً وهو أمام أعظم أعمال حياته؟
كان باسكاوالي متيقّناً بأن مدوّني سيرته إن كانوا سيذكرونه بشيء فلأجل قصيدة "البشارة". أعاد قراءتها وأحسّ بالحماس يغمره، وكأنه وقع في الحب. كان على وشك أن يأخذها إلى الآلة الناسخة عندما طلب المدير رؤيته؛ وحبسه لديه ما يقارب الساعة والنصف، ولما عاد باسكاوالي إلى طاولته وجد أن الآلة تعطّلت. في الساعة الرابعة كان المسؤول عن الإلكترونيات قد أصلحها، لكنَّ أوراق الطباعة نفدت. لم يكن هناك ما يمكن عملُه لذلك اليوم: خطرت بباله حادثة الأمس، فوضع باسكاوالي الورقة في الدرج بحرص شديد. وبعد أن أغلقه غيّر رأيه وفتحه ثانية، لكنه أغلقه أخيراً وخرج. في اليوم التالي لم تكن الورقة هناك.
تكرار هذا الأمر صار يزعجه. قلب باسكاوالي كلّ أدراجه رأساً على عقب، واقعاً على أوراق منسية من عقود: وأثناء البحث حاول أن يسترجع القصيدة من ذاكرته، إنْ لم تكُن كاملةً فعلى الأقلّ السطر الأول أو نواة النص الذي استوحاها منه، لكنه لم يتمكّن من ذلك: في الحقيقة تملّكه إحساس واضح بأنه لن يتمكّن من فعل ذلك أبداً. كان قد تغيّر، تغيّر منذ تلك اللحظة: لم يعُد باسكاوالي نفسه، ولن يعود لذاته مطلقاً، مثلما لا يعود رجل ميت إلى الحياة، ومثلما أنك لا تضع قدمك في ذات ماء النهر مرّتين. كان في فمه طعم معدني مثير للغثيان، طعم الإحباط واللاجدوى. وببؤس جلس على مقعد مكتبه ورأى الورقة معلّقةً على الجدار يساره، بعيداً بعض الشيء عن رأسه. بدا الأمر واضحاً: بعض الزملاء يمازحونه بلعبة سمجة؛ من الممكن أنَّ أحدهم كان يتجسّس عليه واطّلع على سره.
استعاد الورقة ساحباً إياها من طرف واحد ليفصلها عن الجدار من دون أن يواجه مقاومة تُذكر: لا بدّ أنّ من قام بتلك المزحة استخدم صمغاً سيّئ الجودة، أو ربما القليل منه. لاحظ أن ظهر الورقة مُحَبَّباً قليلاً. وضعها تحت ملّفه المكتبي، وطوال فترة الصباح اخترع أعذاراً لئلا يترك طاولته، لكن عندما رنّت صافرة الظهيرة وغادر الجميع لتناول الغداء، لاحظ باسكاوالي أنّ طرف الورقة برز من تحت ملفّه بنحو إنش. استخرجها ثم طواها بحذر ووضعها في محفظته: على كل حال، لا يوجد سبب يمنعه من اصطحابها معه إلى المنزل. سينسخها بيده، أو يأخذها إلى محل النسخ والطباعة؛ وهذا كفيل بحل المشكلة.
وفي طريق عودته مساءً، أعاد قراءة القصيدة وهو في المترو. وخلافاً لإحساسه المعتاد، بدت كاملةً: لا سطر ولا مقطع في حاجة إلى تغيير. ومع ذلك، سوف يفكّر فيها قبل أن يريها لغلوريا. يعرف الجميع كيف أن تقييم نص من الممكن أن يتغيّر خلال فترة قصيرة: فتُحفة يوم الإثنين قد تصير تافهةً نهار الخميس، والعكس قد يكون صحيحاً. في غرفة النوم أقفل على الورقة داخل دُرجه الخاص: لكنه عندما فتح عينيه في الصباح التالي رآها فوقه، معلّقةً على السقف. والتصق ثلثاها بالجص بينما تدلّى الثلث الأخير لأسفل.
أحضر باسكاوالي السلّم وبحذر أزال الورقة، وللمرّة الثانية وجد سطحها خشناً عندما تحسّسه، خاصّة ظهر الصفحة. لمسها بشفتيه: فإذا بالحبيبات الدقيقة تبرز من سطحها، بدت وكأنها منتظمة في سطور. جاء بعدسة مكبّرة ووجدها هناك بالفعل كما توقّع، بالإضافة إلى شعيرات صغيرة التصقت بالورقة متماهية مع أشكال الحروف على الوجه الآخر. امتدّت تلك الشعيرات بالتحديد من أطراف الكلمات مثل سيقان حرفَي الدال والراء وفوق هذا كلّه الأسنان الرقيقة لحرفي السين والشين؛ فعلى سبيل المثال، خلف عنوان "البشارة،" الأسنان الثلاثة لحرف الشين يمكن تبيّنها بوضوح، مثل شعيرات نافرة من لحية كثة لم تُحلق جيّداً، حتى أنها بدت لباسكاوالي وكأنها تهتز قليلاً.
كان الوقت قد أزف ولا بد من الذهاب إلى المكتب، وأحسّ باسكاوالي بالشلل. لم يعد يعرف أين يضع القصيدة. أدرك أن القصيدة، ولسبب ما، قد يعود لفرادتها بالذات، وللحياة المنبعثة منها، كانت تحاول الهرب مبتعدة عنه. قرّر ملاحظتها عن قرب: القهوة لا تهم - ولمرّةٍ واحدة في حياته سيتأخّر. وتحت العدسة المكبّرة استطاع أن يرى أنّ بعض الحروف كانت محاطةً بطبقة رقيقة محفورة على شكل الحرف "ي" تاركةً أثراً على ظهر الورقة من الخلف؛ بحيث أنها لو وُضعت على سطح الطاولة لبقت آثار الحروف بارزةً بمليمتر أو اثنين: انحنى عليها ليُمعن النظر، ورأى بوضوح الضوء بين الورقة والطاولة.
ورأى شيئاً إضافياً: فبينما كان يدقّق النظر تحرّكت الصفحة باتجاه العنوان وبعيداً عنه. تقدّمت بضعة مليميترات في الثانية بحركة بطيئة لكنها متّسقة وثابتة. قلَبها ليغدو العنوان في الخلف؛ وبعد ثوان سارت الورقة هذه المرّة عكسياً، أي باتجاه الطرف الآخر.
تأخّر الوقت الآن؛ وكان لدى باسكاوالي موعد هام عند التاسعة والنصف، ولم يعد بمقدوره التأخُّر لمدّة أطول. ذهب إلى خزانة المستودع، وجد قطعة خشب رقيقة وأحضر المعجون وألصق الخشب فوق الورقة: "البشارة" كان نصّه في النهاية - عملَه الخاص به، ملكيتَه. بقي أن نرى لمن ستكون الغلبة. ذهب إلى المكتب غاضباً ولم يتمكّن من تهدئة نفسه حتى خلال المفاوضات الحرجة التي كان مسؤولاً عنها، وبهذا أدّى مهمّته بطريقة فظّة وأسلوب أخرق، والنتيجة كانت صفقة متوسّطة الأهمية، ممّا أدى إلى زيادة غضبه وسوء مزاجه. أحسّ وكأنه حصان سباق شُدّ إلى عجلة طاحونة: فبعد يومين من دورانك في حلقة مفرغة هل لا زلت حصان سباقات؟ هل لا زالت لديك الرغبة في الجري للوصول أولّاً إلى خط النهاية؟ لا، فكل ما يعتريك وقتها رغبة في الصمت، في الراحة، والعودة إلى الإصطبل. لحسن الحظ في المنزل أو الإصطبل، لا زالت القصيدة تنتظره. لم تتمكّن من الهرب: كيف لها ذلك؟
لم تهرب فعلاً. لكنه وجد بقاياها ملتصقةً بقطعة الخشب: عشرون قطعة، كلُّ واحدة منها بحجم طابع البريد، وتبلغ مساحتها الكلية ما يقارب خُمس الصفحة الأصلية. أمّا بقية "البشارة" فقد غادرت على شكل نتف صغيرة جداً ومكرمشة، شظايا رقيقة متناثرة في زوايا المنزل كلّه: لم يجد سوى ثلاث أو أربع منها، ومع أنه حاول تسويتها بعناية شديدة، إلّا أنه تعذّر عليه قراءتها.
أنفق باسكاوالي نهار الأحد التالي في محاولات لإعادة كتابة القصيدة، من دون جدوى. ومنذ ذلك الوقت ما عاد يسمع صفيراً وما عادت الرعشة تسري في جسده؛ حاول مرّات عديدة بقية حياته، أن يستعيد ذكرى النص المفقود؛ في الواقع أثناء مرّات متقطّعة ونادرة كتب نسخاً متنوّعة منها، لكن تلك التنويعات كانت ضئيلة، باردة وضعيفة.
* كاتب قصة وشاعر وروائي وكيميائي إيطالي وُلد في تورينو عام 1919 ورحل فيها عام 1987. أصدر في حياته قرابة خمسة عشر كتاباً تراوحت بين السيرة والمقالة والقصة القصيرة والشعر والرواية. والنصُّ المترجم في هذه الصفحة من مجموعته "ليليث وقصص أُخرى" الصادرة سنة 1979. عانى ليفي من الفاشية والنازية واعتقل في معسكر "اوشفيتز"، ولم يَسمح في ما بعد للمشروع الصهيوني باستعماله كما حصل مع كتّاب يهود آخرين.
** ترجمة عائشة أحمد، عن الترجمة الإنكليزية لـ آن غولدستين