لفرانز كافكا حضور كبير في المكتبة العربية، منذ سنوات طويلة. والترجمات التي نُشرت حتى الآن، تكاد تكون شاملة لجلّ أعماله، سواء القصصية التي أصدرها وهو حي، أو باقي النصوص التي نشرها صديقه ماكس برود بعد رحيله، مخالفاً رغبته المعلنة في أن تُحرق جلّ أعماله بعد وفاته.
طبعاً، لا تتمتع كل ترجمات كافكا العربية بالقيمة نفسها. لكن آخر ما صدر منها يستحقّ أن نتوقّف عنده. يتعلّق الأمر هنا بالترجمة الجديدة لقصة كافكا الطويلة (أو روايته القصيرة) الأشهر، "التحوّل" (تُرجمت سابقاً تحت عنوان "المسخ")، التي تُعتبر أجمل ما خطّته يد الكاتب التشيكي، إلى جانب روايتيه "المحاكمة" و"القصر"، بل إنها تُدرج ضمن الكتب الأكثر تأثيراً في التاريخ الأدبي للقرن العشرين.
أنجز هذه الترجمة بشغف كبير الشاعر المغربي مبارك وساط، وصدرت عن "منشورات الجمل" مُرفقةً بتقديم في آخر الكتاب على شكل خواطر سريعة للتأمل، يشرح فيها المترجم دواعي اختيار عنوان "التحول" عوض "المسخ". وفي الحقيقة، كلّ التبريرات التي ساقها حول هذه النقطة تبدو منطقية ومقنعة.
لا حاجة للتذكير بأحداث هذه القصة الشهيرة، بل يكفي الاستشهاد بكلماتها الأولى كي نستشفّ ثيمتها الأساسية، وما سيطرأ من "تحولّات" على بطلها: "إذ استيقظ غريغور سامسا ذات صباحٍ، إِثر أحلامٍ سادَها الاضطراب، وجد أنّه قد تَحوَّل، وهو في سريرِه، إلى حشرة عملاقة". تُركّز القصّة إذاً على مفهوم التحوّل الجسدي (تحوّل الإنسان إلى حشرة في هذه الحالة)، لكن من منظور "فانتاستيكي" حديث جداً، وضمن سياق تاريخي واجتماعي دقيق، يجري خلال فترة حرجة من بدايات القرن العشرين، كون كافكا أصدر هذه القصة بعد عام من اندلاع الحرب العالمية الأولى.
مجمل الدراسات التي تناولت القصة، حسب إشارة المترجم في تقديمه، لم تهتمّ فقط بالجوانب الأدبية والنصية واللسانية فحسب، أو المظاهر الأسلوبية للنصّ و"شعريته" أحياناً، بل أمّنت أيضاً مقاربات تأويلية مختلفة، عادة ما يصنّفها الباحثون في خانات ثلاث، هي: التّأويل السوسيولوجي (والسياسي)، التّأويل من زاوية التحليل النفسي، التّأويل الميتافيزيقي. ويجب عدم إغفال جرعة "السخرية السوداء" الزائدة في القصة، إذ قيل إن كافكا كان يقرأها على أصدقائه وهو يضحك، كما لا ننسى أن أندريه بروتون أدرج صفحات منها في مؤلفه "أنطولوجيا الفكاهة السوداء".
سبق أن تناولتْ موضوع التحوّل أساطيرُ كثيرة وحكايات خرافية تنحدر من ثقافات إنسانية مختلفة. لكن ما يميّز قصة كافكا عن سابقيه أنه ناقش بأصالة فريدة أزمة الفرد الحديث في تجلّياتها الواقعية والوجودية، عبر شخصية البطل غريغور سامسا، المنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، والذي يطمح إلى تحقيق تمرّده الفردي اللامجدي في شيء، فيجد نفسه مرغماً على "التحوّل" إلى مسخ بشع من دون سابق إنذار أو سبب منطقي أو خارجي مفهوم، ويُختزل وجوده المادي في حشرة عملاقة رهينة في غرفة عادية، غير قادر سوى على وعي ذاته وتأمّلها بسذاجة، بلا أمل في الحركة والفعل أو مشاركة الآخرين الحياة نفسها.
وفي ما بعد، ينبذه باقي أفراد المجتمع ومؤسساته ببشاعة، ويتنكّر له حتّى المقربون منه، وعلى رأسهم أفراد عائلته الذين سيُكملون تنفيذ ذلك "التحوّل" الآخر الأكثر قساوة، لينتهي به الأمر في مزبلة التاريخ.
نشير في النهاية إلى أن الشاعر وسّاط اجتهد في نقل هذا النص، السّهل ظاهرياً والمتمنّع في العمق، إلى القارئ العربي، عبر لغةٍ سلسة وأسلوبٍ مشوّق، ضمن وفاء لروح النص. وهذا ليس جديداً على وسّاط الّذي سبق أن قدّم للمكتبة العربية ترجمات قديرة كثيرة، كان آخرها ترجمة رواية أندريه بروتون "نادجا".