تمتلك الكتابات التي يقدّمها المبدع خارج إطار الجنس الأدبي الذي تنتمي له معظم كتاباته أهمية خاصة، فالقارئ والباحث، على حد سواء، يتطلعان للتعرّف إلى الصوت الخاص للكاتب لا إلى صوت السارد أو الذات الشاعرة الذي قد لا يكون بالضرورة صوته الشخصي.
بالإضافة إلى ذلك، يمتلك كتاب "حكايات من دفتر الأحوال" للقاص المصري سعيد الكفراوي، ميزة أخرى. الكتاب الصادر مؤخراً عن "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، يبدو أشبه بسيرة ذاتية، الأمر الذي يجعل القارئ أمام شهادة جديدة تضاف إلى تلك الشهادات التي قدّمها كتّاب "جيل الستينيات"، ذلك الجيل الشاهد على فترات تحوّل محورية في مصر، سواء على مستوى المشهد الإبداعي، أو على المستويين السياسي والاجتماعي.
يبدو الكتاب صعباً على التصنيف، فهو ليس بسيرة ذاتية بشكلها المعروف، وهو ما يجعل وصفه بأنه "حكايات" الوصف الأنسب للخروج من معضلة التجنيس. وخلال أكثر من 50 حكاية، يتنقل الكفراوي بين موضوعات شتى، في انتقاء حر غير مقيّد بموضوع موحّد أو بأي ترتيب، غير أن القارئ يستطيع أن يتوقف عند أطر عامة قد تصلح لأن تندرج تحتها حكايات الكتاب.
يتوقف الكفراوي في بعض الفصول عند عدد من المبدعين، ليطرح الكاتب نفسه لا ككاتب، بل كقارئ، يقدم رؤيته الذاتية حول تجارب إبداعية لكتّاب مثل: ماركيز، غونتر غراس، بيسوا، بورخيس، وغيرهم، في قراءات أقرب للقراءة الانطباعية منها للنقد الأدبي. ولعل هناك عاملاً مشتركاً بين عدد غير قليل من بعض أولئك الكتاب الذين توقف عندهم الكفراوي، وهو أنهم -مثل الكفراوي- كتاب انشغلوا بهموم شعوبهم، وانتهى الأمر ببعضهم إلى الملاحقة السياسية مثل غراس، أو الاغتيال مثل لوركا.
يبدأ الكتاب -بقصد أو بغير قصد- بحكاية الكفراوي مع إعلان الرئيس الراحل أنور السادات عن استعداده للسفر إلى "إسرائيل" لدعم عملية "السلام"، الأمر الذي دفعه إلى كتابة قصة تتناول الحادثة من منظور أحد المواطنين، وهو ما تسبّب في "هياج" السادات، للدرجة التي دفعت أحد المقربين من الكاتب لأن ينصحه بعدم العودة.
وفي ذلك الإطار، ينسج الكاتب عدة حكايات حول حكّام مصر، وتحديداً عبد الناصر والسادات، وكذلك حول الواقع السياسي المصري خلال تلك العقود، من منظور كاتب تنطلق غالبية قصصه من القرية، وتحتلّ الصدارة فيها شخصياته الريفية الهامشية شديدة العادية، مؤرخاً لمجتمع هيمنت عليه سياسة الحزب الواحد، والحاكم النرجسي الذي سيسحق تحت سطوته كلاً من المواطن العادي، والمثقف.
وبجانب هذا الموقف السياسي، ينتمي الكفراوي إلى كيان من المبدعين خرج من "الهامش". مجموعة كتّاب جاء غالبيتهم من الريف، وحاولوا منح روح جديدة للإبداع المصري، برؤية ثورية حشدت ضدهم السلطة السياسية بشكل مباشر، أو السلطة الثقافية المهيمنة بعدة وسائل على المشهد الثقافي.
يحيى الطاهر عبد الله، إبراهيم أصلان، سعيد الكفراوي، وغيرهم، كتّاب عانوا الملاحقة السياسية أحياناً، وتجاهل المؤسسة الثقافية الرسمية أحياناً أخرى. وفي عدة فصول يتوقف الكفراوي عند أولئك الكتاب الذين انتهت حياتهم في صمت مريب، من دون أن يحظوا بأي تكريم، كان آخرهم الكفراوي نفسه الذي جاءته "تقديرية" الدولة وعمره 77 عاماً، بعد أن توقف عن انتظارها، رغم أن الجائزة منحت خلال سنوات لأشخاص كان فوز بعضهم محل تساؤل.
بشكل عام، يبدو الكتاب تأريخاً لواقع ثقافي تتجلى فيه أزمة العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة في مجتمعات الحزب الواحد، ويختار فيه المبدع بين الكتابة الحرة مع التعرّض للبطش، أو الانضمام لجوقة الحاكم. بالإضافة إلى كونه يفرد مساحة للكاتب للتعبير عن نفسه كقارئ.