الأسئلة المكرّرة عن أزمة المسرح المغربي لم تعد تقدّم الجديد، سوى مساهمتها في رفع جدار يحجب الرؤية عن تطوّر مسرحي يحدث دون أن يلتفت إليه أحد. فالفترة الزاهية التي عاشها في الماضي وأسّس من خلالها مكانته في المسرح العربي، لا يمكن أن تعود بتفاصيلها الفنية والمضمونية، لكن المسرح مستمر وفن العرض يتطوّر.
الاستسلام لفكرة استعادة ماضي المسرح المغربي، تحرم الجمهور من الالتفات إلى تجارب جديدة. إنه إشكال آخر يُضاف إلى أمراض المسرح المغربي.
السينوغراف والمخرج المغربي عبد المجيد الهواس يصف هذا الحال بالقول: "تكمن أزمة المسرح المغربي في أمر الوصاية المضروبة عليه، في محاولة تدجينه وإضعافه. المسرح المغربي عاش مجتهداً ومدافعاً عن وظيفته داخل المجتمع، التجارب فيه مسارات مضيئة متنوّعة ومتباينة ومؤسّسة لسيرورته، وهي بذلك لم تجتهد في خلق النموذج. المسرح يستمد حياته من قدرته على الحياة المتجدّدة وفقاً لتطوّر المجتمع وما يحدث عبر العالم. الجيل الجديد يجتهد لخلق دينامية جديدة تجد دائماً من يحاول إحباطها كي يستأسد النمط التقليدي، بدعوى "هذا ما يريده الجمهور"، وهي مقولة مغرضة تهدف إلى الحيلولة دون الطموح المتجدّد وإحكام السيطرة على الممارسة المسرحية".
منذ بداية تجربته المسرحية، اعتبر مخرج "سكيزوفرينيا" أن العرض المسرحي مخبر للتجريب، وعلى المسرحي ألا يغادره أبداً. في كل العروض التي أخرجها، هناك بحث عن أفق أرحب للتواصل مع الجمهور، فالعرض لا يقف عند تداول الكلام بين الشخصيات، بل يصبح الفضاء العنصر الأهم فيه. سمة التجريب طاغية في أعمال الهواس.
وعمَّا إذا كان ذلك خياراً محدّداً سلفاً أم أنه تكيّف مع متطلّبات النص، يبيّن: "النص هو أحد مبرّرات العرض المسرحي، وليس هدفاً في حد ذاته. أغلب الأعمال التي أُنجزها في مسرح "أفروديت" تنحو نحو مساءلة النصوص عبر اختبارها واختبار المهن المسرحية وتحديد وظائفها داخل العمل المسرحي. التجريب هو نوع من عدم الركون للنموذج الذي يفترضه البعض، وهو محاولة لبعث الروح الإبداعية التي افتقدها الجمهور في الأعمال التي يشاهدها. من المؤكّد أن هناك مشتغلين في الفن الرابع يفضّلون إعادة إنتاج ما تعلّموه. لعلهم مهنيون بالأساس يسترزقون عبر الممارسة، ذاك حقّهم. لكني في مساري الفني أحاول أن أجد مبرّراً أسمى لإنجاز عمل مسرحي؛ إيجاد محفّزات جديدة تورّط المتلقي في إعادة طرح سؤال الممارسة المسرحية وجدواها".
الجانب السينوغرافي في العروض التي يخرجها لا يأتي على حساب الأداء، يوضح رئيس فرقة "أفروديت" المسرحية أنه يستعين بعدد كبير من الممثّلين يفوق عدد الشخصيات الواردة في النصوص، مضيفاً "تستهويني مضاعفة الشخصيات ووضعها في مسارات متضادّة. تزامن الأحداث برؤى متباينة يفتح مسارات التأويل وإنتاج دلالات إضافية. "شتاء ريتا الطويل" و"امرأة وحيدة" و"سكيزوفرينيا" و"شجر مر" هي أعمال تدّل على ذلك. أما في ما يخصّ السينوغرافيا، فهي الإطار الجمالي الذي يتضافر مع باقي المكوّنات الجمالية كي يصير كتابة في الفضاء، إلى جانب الإضاءة والصوت والصورة. لا يمكن للفن المسرحي أن يعيش على المنطوق. تضافر الشكل والمضمون أساسي لإخراج المسرح من عنق الزجاجة".
المسرح الآن يوجد في مضمار تنافسُه فيه الميديا بكل أنواعها، ومهمته أن يتكيّف مع الوضع الجديد. كحل لهذه المسألة، يقترح الهواس: "العناية بشاعرية الفضاء وتنقية المشهد، فالفن المسرحي فن مرئي بامتياز. وعليه أن يطوّر أدواته ويضاعف اجتهاداته كي يصمد في حاضره ويعيد الجمهور إليه. واعتبار الجمهور كمستهلك سلبي يُضعف إمكانية أن تصمد الممارسة المسرحية أمام السينما والتلفزيون. وهذا أمر حتمي ما لم ينشأ وعي جديد بالممارسة المسرحية في المغرب".
يعتبر الهواس أن "الاعتناء بالعمل والاجتهاد وفهم سياقات الممارسة الفنية عبر العالم أمر أساسي. على المخرج المسرحي أن يكون مبدعاً وواعياً ومنفتحاً على أسئلة المسرح الكبرى، وعليه أن يتجدّد ويشحن بطارياته بالمعرفة وألا يرتكن إلى السائد. فالمسرح فن حي يقدّم لجمهور يحيا الآن وهنا، وهو بذلك لا يقبل بالنمط الجاهز الذي يجتر ذاته".
بالنسبة إلى المخرج والفنان التشكيلي أيضاً، فإن توظيف الصوت والصورة وحياة جسد المؤدّي في الفضاء والضوء ومجموع ما يقودها لأن تصير كتابة قادرة على الذوبان في نسيج العرض مخلخلةً إياه، متقاطعة بشكل كبير مع الإخراج وملهمة له.
يعتقد الهواس أن السينوغرافيا استطاعت أن تلهم المسرح المغربي في العقود الأخيرة وتدفع بعجلته بشكل خفي وفعّال. مثلما صارت مُهيّجاً جميلاً لأسئلة التلقّي ولانتباه الجمهور. ولعل فن السينوغرافيا، وفقاً له، هو الأقرب إلى التقاط حقيقة التحوّلات التي يعرفها العالم، حين استطاعت التكنولوجيا الحديثة أن تحوّل المنطوق إلى مرئي ويصير الافتراضي جزءاً من حقيقة هذا العالم.