صدر للفيلسوفة الأميركية، جوديث باتلر، كتاب جديد بعنوان "ملاحظات نحو نظرية أدائية للجماعة" (منشورات هارفرد). إننا أمام كاتبة غزيرة، لذلك فإن كتابة مقال عنها سيكون أشبه بأظافر تخدش السطح فقط. التفكير في منجز باتلر هو تفكير في "حال النقد" اليوم، بكلمات صاحبة "أجساد ذات شأن"، أو "وضع الفلسفة" اليوم، إذا كنا سنستخدم طريقة الفيلسوف التشيكي سلافوي جيجيك، والذي كان سيضيف إليها التحليل النفسي. فتناول تجربتها الفكرية يعني التنقيب في أن نكون ضد النزعة المؤسساتية، وكيف نتعامل مع الذات والقدرة على الفعل والتفكير في عصرنا.
كان اهتمام صاحبة "مواضيع الرغبة" (كتابها الأول 1987) في بدايتها بالهيغيلية، وكان مفهوم الرغبة أساسياً بالنسبة إليها، وبشكل أدق التفاعل بين الرغبة والاعتراف، وهو أمر له مركزيته في فينومينولوجيا هيغل. سيشكّل هذا الاهتمام في ما بعد محور دراساتها الفلسفية عموماً، والنسوية الجندرية بشكل خاص. ومع ظهور كتابها الثاني "مشكلة النوع"، بدا كما لو أن أحدهم أقدم على تغيير أدوات اللعبة في الكتابة النسوية عن الجندر وفي الدراسات "الكويرية".
كان هذا الكتاب لدى صدوره عام 1990، استفزازياً بالمعنى الإيجابي لدى كثيرين، وصادماً لكثيرين أيضاً، وفيه قدّمت باتلر لأول مرة مفهوم "أدائية النوع"، والذي ترى من خلاله أن الجندر ليس فقط تصنيفاً غير أساسي، بل إنه مرتبط بالأداء والارتجال. آنذاك، لقي هذا المفهوم الترحيب بنفس القدر الذي لقي فيه الانتقاد من قبل نسويات أخريات، رأين في "النسوية الباتلرية" استسهالاً كبيراً في تناول قضايا المرأة والنوع، ولطالما أخذن عليها أنها لم تنخرط مع نسويات أخريات في النشاط الحقوقي للدفاع عن قضايا نسوية.
ليس الأمر أن باتلر متفرّغة للكتابة، بل إنها في الأساس، كانت تنتقد الصيغ المهيمنة على النسوية وقتها، والتي تفترض أن المرأة، ولكي يتم الاعتراف بها كامرأة، لا بد من أن تقع ضمن إطار الهوية الجنسية المنجذبة للرجل، وأن يكون لديها رباط خاص مع الأمومة.
ترى باتلر في الأداء نوعاً من الفعل، فإذا كان الجندر نوعاً من الفعل الذي يقوم به المرء من دون معرفة أو إرادة؛ فهو ارتجالي إذن؛ أي مزيج من اللامتوقع والمحتمل. وتعتبر أن فصل حياة الجندر عن حياة الرغبة أمر مستحيل، لذلك فهويتنا متأثرة بالشغف، وهذا يقود إلى استخدامها لكلمة "القدرة على الفعل" agency بديلاً عن "الذات"، التي تتجنّب استخدامها كي لا تضع نفسها في بارديغما الليبرالية الفردانية، التي انتُقدت من قبل مفكرين من طراز فوكو، كونها الذات الإمبريالية المهيمنة، التي لا يمكنها أن تحيد أو تثور على التأثير الثقافي. إذن فهي لا تتناول الذات، بل القدرة، التي هي ليست ضحية للمعايير وحسب، بل والعاجزة عن إعادة ابتكار الذات طوعاً أو كرهاً.بعد هذا الكتاب، توالت سلسلة مؤلفات اشتغلت فيها صاحبة "الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع"، على تطوير مفهوم "الأدائية"، في الوقت الذي تتأمل فيه الوسائل التي تتقاطع فيها الهوية والجنسوية والسياسة والأخلاق في العالم المعاصر، الأمر الذي اتضح أكثر في كتابها "حلّ النوع" Défaire le genre، والذي تتطرّق فيه إلى أن عملية تكرار الصياغة الثقافية هي في حقيقتها تثبيط لعملية إعادة صنعها، محاولةً تحليل الكيفية التي تتفاعل فيها العمليتان. تبدو باتلر هنا وكأنها تتبع تقليداً فوكوياً، ينطلق من أن المحظورات تقود إلى صيغ جديدة من الهوية وإعادة صناعتها.
تتوقّف مؤلفة "هل النقد علماني؟"، أيضاً عند النشاط الحقوقي Activism، وترى أنه إن كان ينبغي أن ينبثق من هوية ما، فلا بد ألا يكون محدداً بمحددات تلك الهوية. تقول: "يبدو لي أن مهمة كل الحركات الحقوقية أن تميّز بين المعايير والعهود التي تتيح للناس أن تتنفس وترغب وتحب وتعيش، وتلك التي تقيّد أو تسلب شروط الحياة نفسها".
من فهمنا للجندر ولمعنى النشاط الحقوقي عند باتلر، نفهم مواقفها السياسية والأخلاقية التي لا تتجزّأ، هي التي تريد أن تحرّر ذلك النشاط من التصنيفات؛ ليس عليك أن تكون مثلياً لتطالب بحقوق المثليين، ليس عليك أن تكون امرأة لتدافع عن حقوق المرأة، ليس عليك أن تكون كاتباً لتطالب بحرية التعبير، ليس عليك أن تكون سورياً لتناضل من أجل السوريين، ويمكنك أن تكون يهودياً وتطالب بحقوق الفلسطينيين، وأن تواجه الصهيونية.
وهذا ما فعلته في كتابها "مفترق طرق.. اليهودية ونقد الصهيونية" (الذي نلحق جزءاً صغيراً مترجماً منه بهذا المقال)، وفيه توظّف لتوضيح موقفها من "إسرائيل" والصهيونية مفهوم اللااندماج أو لنقل التبرّؤ الذي ابتكره جاك رانسيه، للمواطن أو المثقف الفرنسي، الذي اعتبر أن الدولة الفرنسية لا تمثله حين ارتكبت مذبحة ضد 200 جزائري وسط باريس عام 1961. فباتلر كيهودية تعلن أن دولة "إسرائيل" لا تمثل اليهودية كهوية وكدين، وتستعين بشكل أساسي بمقولات إدوارد سعيد في كتابه "فرويد وغير الأوروبيين"، كما تستعين بأفكار حنا آرنت ومانويل ليفيناس وفالتر بنيامين وبريمو ليفي وتجربة محمود درويش في مقال بعنوان "ماذا نفعل من دون منفى؟".
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها باتلر عنف الدولة، فقد كتبت قبلاً "حياة مضطربة" و"أطر الحرب"، ولكن "مفترق طرق" هو كتابها الوحيد المخصّص لنقد الصهيونية و"إسرائيل". وفي ظل هذا النقد، كانت تتصوّر المستقبل فيما هي تحاول بناء مفهوم لاهويّاتي لليهودية، مفهوم مبنيّ على فكرة التعايش كما طرحتها حنّة آرنت، فهي ترى أن تاريخ اليهودية يضع الآخر مكوِّناً في صميم الديانة، مقدّمةً برهاناً في تفسير إدوارد سعيد لـ "مصرية موسى". من هنا لا يمكن فهم اليهودي من دون فهم العربي، فهو في صميم الهوية الأساسية لليهودية كما تقول.
وإن كانت باتلر تحاول تصوّر هذا المستقبل عبر قراءات مختلفة طيلة الكتاب، لكنها تقوله منذ الفقرة الأولى وتعترف بافتقاره إلى الواقعية السياسية في الوقت نفسه: "على الرغم مما يقال عادة من أن حل الدولة الواحدة وثنائية القومية المثالية هما هدفان غير عمليين، حتى من قبل أولئك الذين يلتفتون إلى النية الحسنة لمثل هذه المفاهيم، فمما لا شك فيه بل ومن المحق القول إن العالم الذي لا يدافِع فيه أحد عن حل الدولة الواحدة، ولا يعتقد أحد بعد الآن بالثنائية القومية، سيكون عالماً مفقراً على نحو جذري. أعرف أننا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن "السلمية". فربما تكون قد فقدت مصداقيتها من حيث أنها تفتقر إلى الواقعية السياسية، ولكن هل يريد أي منا أن يعيش في عالم لا وجود فيه لدعاة السلام؟ أي نوع من العالم سيكون هذا؟".
اقرأ أيضاً: جينالوجيا الأخلاق وورثة تشريح الضمير