هل هو سياق طبيعي لجدل المعرفة الإنسانية ذاك الذي ظل يتخبّط فيه المثقف العربي على مدى أكثر من قرن ونصف القرن، عبر موجات من التأثر التي بدت كما لو أنها دالة تشويش دائم على مأزق الكينونة الثقافية العربية، أكثر منها حواراً حراً مع الفكر والثقافة الغربيين؟
فما بدا أمامنا اليوم ركاماً لخلاصات من القطيعة المستمرة والمتحوّلة والمعبّرة عن تراث أجيال من المثقفين العرب في موقفهم المشوّش حيال تحديد سوية عقلانية للعلاقة المعرفية مع الغرب وسياقاتها، هو ما دل اليوم أيضاً على الهُوة الواسعة والعميقة بين واقع الحياة في هذا الجزء من العالم، الذي كان أقدم العوالم احتكاكاً بالحضارة الغربية، وبين واقع طبيعي آخر استقرّت فيه الحياة وازدهرت عوالم أخرى لاحقة في آسيا، احتكّت، بعد العرب بعقود، بتلك الحضارة الغربية التي طبعت هوية العالم الحديث.
لعل هذا ما سيردّنا، بالضرورة، إلى استعادة السؤال القديم/الجديد عن تأخّر العرب وتقدّم الغرب، ولكن ليس على ذلك النحو الذي أطلقه شكيب أرسلان في بدايات القرن العشرين، وإنما بتحوير السؤال على نحو آخر أكثر حيرة، هو: لماذا تأخّر العرب وتقدّم غيرهم من المسلمين في ماليزيا وتركيا وإيران؟
إن استعادة هذا السؤال على هذا النحو ستردّنا، أيضاً، إلى سؤال الهوية الأنطولوجية للمعرفة المتّصلة بالسياق تحديداً. فما بدا مشوّشاً ومتّسماً بالفجاجة في ذلك الركام، ليس فقط من حيث نتيجته كتعاط للمغلوب مع الغالب (فقد حدث ذلك لأمم كثيرة استطاعت أن تجد ذاتها بعد الهزيمة) وإنما أيضاً من حيث العجز عن اجتراح سياق معرفي يعيد باستمرار تشكيل منظومة معرفية قادرة على إنتاج حداثة خاصة بالأزمنة العربية.
إن السياق المعرفي الخاص لاستبطان معرفة الآخر في الغرب وإعادة إنتاجها هو المهمّة التي لم يقم بها أحد، مؤسسياً، حتى اليوم، ولن يتبرّع بها أي أحد، كائناً من كان، لأسباب تتصل، تحديداً، بشروط المعرفة الإنسانية وقوانينها.
فإذا ما أمكن اليوم؛ من خلال الفلسفة التواصلية القائمة على علاقة "الذات" التي طوّرها الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، كبديل عن فلسفات "الهوية" (صراع الذات والموضوع) كالماركسية مثلاً، وكذلك من خلال الآفاق التي فتحتها فلسفة ما بعد الحداثة حيال ممكنات تعدّد تاريخ وجغرافيا المعرفة الإنسانية خارج المركزية الغربية؛ أي إذا ما أمكن انفتاح ما، يعيد الثقة للمثقف العربي ببعض ممكنات ثقافته التاريخية؛ فما هو سبب انقطاع العرب في مأزق هذا الحاضر الذي يترجَّح بين هوية حضارية تاريخية متحققة في الماضي، وبين هويتهم المشوشة في الأزمنة الحديثة؟
غياب القدرة على إنتاج السياق الخاص في التفاعل مع معرفة الآخر، هو ضرب من غياب الكينونة الثقافية ذاتها في الحاضر، وهو مأزق لن ينوب عنا أحد للخروج منه!