"ليل" هو العمل الأوّل من ثلاثية جديدةٍ لـ علي شحرور، بعد ثلاثية مسرحية راقصة اشتغل فيها على ثيمة الموت والحزن وطقوسهما في العالم العربي؛ وهي: "فاطمة" (2014)، و"موت ليلى" (2016)، و"عساه يحيا ويشمّ العبق" (2017). في الثلاثية الجديدة يتناول الكوريغراف اللبناني موضوع الحب في عصرنا، بالاستناد إلى التراث الأدبي العربي؛ حيث يُضيء قصصاً انتهت أو أُهدر دم أصحابها بسبب تعبيرهم عن الحب.
إنه "عرضٌ مسرحي يستوحي طرحه وجمالياته من حضور العشق ومعانيه في الشعر العربي، وفي قصص العشّاق وقساوة الفراق". هكذا يُقدّم القائمون على العرض عملَهم المسرحي الذي تُختتم، اليوم الأحد، سلسلة عروضه التي انطلقت الخميس الماضي، على خشبة "مسرح المدينة" في بيروت.
مع رفع الستار، تظهر على الخشبة مجموعةٌ من المؤدّين والموسيقيّين: شريف صحناوي بقيثار كهربائي، وآية متولّي بآخرَ وتري، وعازفةُ الإيقاع سيمونا عبد الله، إلى جانب الممثّلَة حلا عمران، والكوريغراف على شحرور (مخرج العرض أيضاً) الذي يتمدّد شبه عارٍ فوق أحد مكبّرات الصوت، هامداً بلا حراك، وفي يده باقة وردٍ ونبات.
يثبت الجميع في أماكنهم بلا حركةٍ لوقتٍ طويل نسبياً، ربّما لإدخال المتفرّج في جوّ العرض، قبل أن تشرع عمران في قراءة مترادفات كلمة الحب من قاموسٍ للغة العربية، بصوتٍ مرتفع: "الحب، العشق، الهيام، الجوا، الهوا"، شارحةً المعاني الخاصّة بكلّ منها، بينما يثبتُ الجسد العاري فوق مكبّر الصوت، في تأكيدٍ بأنه معنيٌ بهذه الحالة.
ينقسم العمل (دراماتورجيا جنيد سري الدين) إلى أربعة مشاهد يروي كلٌّ منها حالةً من حالات الحب والعشق. وفي المشهد الثاني، يحضر الغناء والأداء الجسدي؛ إذ تؤدّي عمران أغنيةً من تراث الغناء العشقي في منطقة الشام والعراق، بينما يُصدِر عازف القيثار الكهربائي موسيقىً إلكترونية بشكل عشوائي؛ بحيثُ تُشوّش موسيقاه على الغناء وتُعارضه.
على الجانب الأيسر من الخشبة، يدخل علي شحرور وآية متولّي في أداء راقص هو عبارةٌ عن حركةٍ واحدةٍ متكرّرة، تُركّز على الخصر، في إحالةٍ إلى الرقص الشرقي. يكرّر الراقصان الحركة، قبل أن ينتهي المشهد بشكلٍ يُلخّص مضمون العرض؛ حيث يلتفّ الجسدان على بعضهما، ويخترق سهمٌ قلبيهما، في صورةٍ تُحيل، أيضاً، إلى العلاقة بين الحب الموت، والتي يُركّز عليها العرض في أكثر من مشهد.
لعلّ ذلك ما يُؤكّده التقديم الذي اختاره القائمون على العمل؛ إذ يقتبس من كتاب "شذرات من خطاب العشق" لرولان بارت هذه العبارة: "الكارثة أزمة عنيفة تشعر خلالها الذات بالموقف الغرامي كورطة نهائية ومأزق لا مخرج منه، ترى نفسها مرصودة حتماً للانهيار".
في المشهد الثالث، تؤدّي عمران أغنيةً من التراث العراقي، بمرافقة عزف موسيقي وأداء جسدي. ولا يقتصر أداء دور العشّاق وتمثُّل حالهم على الراقصين، بل يشمل كامل أعضاء الفرقة الموسيقية، الذين لا يقتصر دورهم في العرض على العزف، بل يشاركون في الأداء التمثيلي أيضاً. تمتزج، هنا، مشاعر الحب والألم، صوت الغناء والفجيعة، حركة الهيام الحرّ والحركة الجبرية الميكانيكية. تتصاعد الموسيقى والحركة، ويتصاعد الغناء ليبلغ ذروته في نهاية المشهد، حين تسقط المغنّية على الأرض.
حول هذا الخيار الإخراجي، يقول شحرور، في حديثٍ إلى "العربي الجديد": "ليس هناك توزيع أدوارٍ ثابت بين الموجودين على خشبة المسرح. الموسيقيون والمغنّية يدخلون في اللعبة المسرحية، والراقصون يعزفون الموسيقى. الكلُّ يروي قصّته بطريقة تجمع بين عدة أنواع من الأداء المسرحي".
إلى جانب ثنائيات الحب والألم، العشق والموت، تحضر في العرض ثنائية النهوض والسقوط. لأكثر من مرّة، تتهاوى أجساد المؤدّيَين على الخشبة، وكذلك تسقط المغنّية معهما، في إشارة إلى تشابه حال العشّاق وأحاسيسهم. أيضاً، يستلقي عازف القيثار وعازفة الإيقاع على الخشبة ويعزفان وهما في وضعية السقوط، ومن حولهما يؤدّي الراقصون حركةً مسرحية تدمج بين الندب والنداء، بين الترحيب والوداع، بين الألم الفردي والطقس الراقص الجمعي والألم.
عن السقوط وعلاقته بالعشق، نقرأ في تقديم العمل: "يُسجّل العرض تقلّبات المحبّين ومقاومتهم، وصولاً إلى لحظة السقوط والتلاشي؛ حيث يسقط الجسد المنهك ويسقط معه كلّ فعل وأداة حملها المؤدّون على مدى زمن العرض. يكشف السقوط عن هشاشة المؤدّي العاشق".
في المشهد الأخير، يهمد الراقصون والموسيقيّون على المسرح... المعدّات التقنية، من آلات موسيقية وميكروفونات ومكبّرات صوت، تُوضَع على الأرض أيضاً، تتدلّى أسلاك حاملات الإضاءة، وتُلقى الستائر التي كانت تغطّي خلفية المسرح على الأرض. لدقائق، يراقب المتفرّج هذه المشهدية، حيث كل شيء هامد على الأرض بلا حراك. يبدو المكان الذي شهد لتوّه حالات عشقٍ صاخبةً مثل ساحة ما بعد المعركة.
وقبل نهاية المشهد، ينهض عازف القيثار مجدّداً، ليعزف النوتات الموسيقية التي افتُتح بها العرض، ثم ينهض الموسيقيّون والراقصون واحداً تلو الآخر، ليستعيد كلٌّ منهم دوره، في إشارة إلى ثنائيات الفناء والوجود، الحياة والموت، التحرُّر من الحب والعودة إليه من جديد.
في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والإلاف"، يقول ابن حزم الأندلسي، معرّفاً الحب: "الحب، أعزّك الله أوّله هزل وآخره جدّ". يسعى الكتاب إلى تبيان أنواع مختلفة من الحب وآثاره، وهو ما يفتقده المتفرّج في هذا العرض؛ أي التنويع بين الجد والهزل، وبين اختلافات آثار الحب التي أشار إليها ابن حزم.
هكذا، يقتصر حضور الحبّ في عرض "ليل" على ارتباطه بالألم والشكوى والفقدان والوهن والانهيار؛ إذ تغلب عليه رؤية تراجيدية لمفهوم الحب، ولا يُحيلنا إلى النشوة والطرب إلّا في حالاتٍ نادرة. والعمل هو أحد ثلاثة عروضٍ حول الحب يشتغل عليها المخرج. وقد تكون الجوانب الأخرى موضوعاً للأجزاء المقبلة من الثلاثية.
وفي واحدةٍ من الإشارات القليلة في العرض إلى الجوانب الإيجابية للحب، يزرع المؤدّون جسدَي العاشقَين بالنبات والزهور، وكأن الحب أزهر في جسد العاشق وجعل منه جزءاً من الجنّة، في تجسيدٍ لما قرأته عمران في بداية العرض عن أحد مترادفات العشق: الجنون: "جنّت الأرض بمعنى أثمرت، وأنبتت وأزهرت، ومن هنا كلمة الجنّة".