قد يجد المتأمّل في لوحات التشكيلي السوداني عثمان وقيع الله (1925 – 2007) - الذي مرّت أمس ذكرى رحيله الثامنة - راحةً، مبعثها الاندماج الهادئ بين الفراغ، واللون، وكُتل الحرف العربي التي تتحرّك بين الترميز اللغوي العادي، والدلالة الصوفية البعيدة، باستخدامه نصوصاً مقدسة، وأحياناً أشعاراً عامية وفصحى؛ لتتناغم وتتداخل جمالياً، مع وجود متعدد توازيه احتمالات متعددة ومتراكبة لقراءة اللوحة.
لعلّ ما جعل وقيع الله واحداً من أهم التشكيليين الحروفيين، هو قدرته على الخروج بالحرف العربي من أسر التكرار والزخرفة، إلى حرية التمدّد في مساحة اللوحة، كعنصر مكتمل بذاته، من دون إهمال دلالته الهوياتية أيضاً. حيث ظل مشغولاً، كما يبين في أحد مقالاته، بالخروج بفن الخط العربي من "قوقعة القطعة التركية إلى متسع آفاق الحرية الفنية الماثلة في إزالة التأطير والمحسنات البديعية الخطوطية، والزخرف الرتيب". وهي التجربة التي نتج عنها طريقته في تشكيل الخط، التي سماها "البعد الرابع للخط العربي".
ويصف وقيع الله تجربة "البعد الرابع" بأنها "انبثقت من تأملاتي في الخط الكوفي، وفي الحروف المفردة الكوفية التي تتمتع بخواص تشكيلية تفتقر إليها جميع الخطوط العربية، وذلك لما فيها من حرية الحركة، وطراوة الأطراف، وحيوية الانسياب، وطواعية التشكُّل".
ويعد وقيع الله من أبرز المساهمين في تيار "الحروفية" في القرن العشرين، إذ وضع عدة مصاحف بخط يده، كما كان "من أوائل الذين اعتبروا الخط قيمة جمالية في حد ذاته، وليس مجرد حرف من حروف الأبجدية"، كما وصفه الأديب الراحل الطيب صالح.
وقيع الله في شقته في لندن (تصوير: أحمد سيد أحمد) |
وإضافةً إلى عمله في تكوين البنية التحتية للفنون في السودان، كان وقيع الله شاعراً كتب بالعربية الفصحى، والعامية السودانية، كما كتب شعر "الدوباي" البدوي المعروف في "بادية البطانة"، وله تسجيلات صوتية في الإذاعة السودانية، وأيضاً كمعدّ ومقدم برامج. كما صمّم العملة السودانية، وطوابع البريد، والوثائق الثبوتية، والأوراق الرسمية بعد الاستقلال. وأسهم في تطوير الشكل الفني للصحف السودانية. وكان أيضاً من مؤسسي رابطة الأدباء السودانيين (1950)، واتحاد الفنون الجميلة السوداني (1951)، إلى جانب أنشطة أخرى متنوعة في دول أخرى.
واستكمل بعدها في "معهد الخطوط الجميلة"، و"كلية الفنون التطبيقية"، في القاهرة، (1950 - 1951). ونال إجازة في الخط من الخطاط المصري سيد إبراهيم. وعاد بعدها إلى السودان ليُدرِّس في كلية الفنون الجميلة التي كان أحد مؤسسيها.
ظلّ عثمان وقيع الله مقيماً في بريطانيا منذ عام 1967 وحتى 2005، حيث قضى آخر أيامه في مدينة رفاعة.