"لا يكون الفنان وحده أبداً حين يقرّر أن يشتغل، ويبدأ في مهمة فنية. إنه يستعمل غرضاً، أو يوحي له نص بشيء، فهو دائماً مع شيء ما". هكذا كتبت الفنانة التشكيلية التونسية نجاح زربوط في كتالوغ معرض "مع كتاب"، مقدّمة فكرته في إطار موسّع.
ولدى التشكيليين لا يبدو الكتاب مثل أيّ شيء؛ إذ قد يكون منطلق عمل ويظل فيه بارزاً أو تطمس آثاره، كما يمكن أن يكون هو نفسه مادة العمل الفني، وهذه التشكيلات المختلفة تحضر في معرض "مع كتاب" الذي يتواصل في "غاليري البيرو" في مدينة سوسة التونسية حتى الرابع من إبريل/ نيسان، وشاركت فيه أعمال لعشرة فنانين تونسيين: أسامة الطرودي، وهالة لمين، ومحمد علي بن رحومة، ومحمد وسام العابد، وآمنة غزيّل، وعماد جميّل، ونسرين الأمين، وأسماء قريشي، وأسماء الغيلوفي، وسهير الأمين.
عن فكرة المعرض، تقول منسّقته نجاح زربوط، في حديث إلى "العربي الجديد": "هو يأتي ضمن سلسلة معارض جماعية سنوية بدأت في 2016 بـ "مع خط"، وتلاها معرض "مع خيط" (2017)، وهذا العام كان الكتاب الـ"موضوع" الذي دعوت زملائي للاشتغال عليه".
عن اختيارها للأعمال المشاركة، في سلسلة المعارض هذه، تشير التشكيلية التونسية إلى أنها تنطلق من الفنانين أنفسهم، إذ "يكون موضوع المعرض حاضراً كانشغال بطريقة ما في مشوارهم، بعضهم يلتقط أعمالاً منجزة من قبل وآخرون يقدّمون أعمالاً خاصة بالمعرض". تشير أيضاً إلى بعد أساسي يتعلّق بأن أغلب الفنانين هم باحثون أيضاً، وهذا ما يعطي سلسلة المعارض بعداً فكرياً، أو على الأقل بحثياً.
ومن جهة أخرى، تلفت إلى أن الأعمال المقدّمة ستكون أيضاً مواضيع أبحاث لطلبة "كلية الفنون الجميلة"، وهو ما ينبهنا إلى جانب مهمّ على مستوى التقبّل يتمثل في هذه الدورة التي يخلقها، أو يفعّلها، المعرض التشكيلي بين الفن كمنتج والبحث العلمي حوله.
من المشاركين في المعرض الفنان التشكيلي محمد وسام العابد، إذ تحضر له ثلاثة أعمال، لوحتان تظهر فيهما شخصيات حضرت في أعمال كثيرة سابقة له، وقد حضرت هذه المرة "مع كتاب"، كما يشارك بعمل بعنوان "قاموس مزدوج اللغة"، يتداخل فيه معجمان عربي وفرنسي.
بعيداً عن جانبه الفنّي، يعبّر العمل عن قضايا أساسية في مجال علم الترجمة، مثل استحالة الترجمة، وعدم التوازن بين اللغة الأصل واللغة الهدف، وغير ذلك. هكذا يبدو العمل إطلالة فنية على مجال بحثي دقيق. يقول العابد لـ"العربي الجديد" إن "هذه القضايا الخاصة بمجال الترجمة لها صدى عندي كتشكيلي، كانت فرصة للتفكير في العلاقة مع الآخر".
بالنسبة إلى الفنان التشكيلي التونسي، فإن "أي غرض أو شكل يمكن استعماله أو تناوله. والكتاب ربما هو أكثر قابلية للتطويع الفني من كثير من الأغراض الأخرى، خصوصاً حين يحمل فكرة أو مفهوماً يمكن الانطلاق منها أو منه. الكتاب بطبيعته واقع في منطقة تجاوب أو تحاور بين اللغة التشكيلية واللغة اللفظية".
يضيف "بشكل عام، أتمثّل مهمة الفنان التشكيلي من موقع كونه صاحب حق في أن يسائل أي شيء. بعبارة أخرى لا شيء خارج الاختصاص الفني، وفي الحقيقة فإن تقسيمات الاختصاصات أتت في الغالب من خارج الفن وليس من ممارسيه".
حين يكون الكتاب موضوع معرض تشكيلي، فكأنه صار نقطة تقاطع بين حقول ثقافية قد تبدو متباعدة، فالكتاب قبل أن يكون محملاً أو موضوعاً لدى التشكيليين، هو محمل مجالات إبداعية أخرى مثل الرواية والشعر والفكر، بالإضافة إلى المتداخلين المباشرين في صناعة النشر. حضور الكتاب في معرض هل يجذب هذه الحقول الثقافية الأخرى إلى فضاءات الفن التشكيلي، أم يظل كلّ مجال منحصراً في دوائره؟
يقرّ العابد بأنه لم يلاحظ اهتماماً خاصاً من نخب ثقافية أخرى، من غير التشكيليين، بالمعرض، وهؤلاء هم زوّار المعارض التشكيلية المألوفون. يضيف: "غياب حضور معنيين آخرين يدلّ ربما على غياب مجهود للخروج من هذه الدوائر التصنيفية الوهمية"، يشير أيضاً إلى ما يمكن أن تتيحه التكنولوجيا اليوم من تواصل، غير أنه يلاحظ أيضاً أن فيسبوك نفسه يشهد على وجود شبكات متفرّقة، بحيث إن معرضاً تشكيلياً يبقى مرئياً أكثر لدى التشكيليين، ونفس الشيء يمكن سحبه على عالم المسرحيين أو الشعراء أو غيرهم.
يعفينا المعرض بشكل عام مما تكرّس من مقولات عند تناول الكتاب، فلا نجد التفاتاً إلى قضايا من قبيل موت الكتاب، وأزمة القراءة، وتهديد التكنولوجيا وغير ذلك مما تجري استعادته بشكل ميكانيكي كلما جرى الحديث عن الكتاب.
يقول الفنان التشكيلي محمد علي بن رحومة في حديث إلى "العربي الجديد": "هذا أمر طبيعي، فلسنا هنا ضمن منظور سوسيولوجي حول الكتاب، وأنا كتشكيلي لا أشعر بأنني أدافع أو أؤكّد على إشكالية ما حول وضع الكتاب اليوم. الكتاب شيء طبيعي في حياة البشر، والفن يقترح إطاراً لوضع الكتاب في منطقة انتباه مختلفة". يضيف "ما نريد لمسه هو العلاقة الحميمة مع القراءة والكتاب كتجربة".
يشارك بن رحومة في المعرض بمجموعة أعمال، بعضها لوحات وبعضها الآخر تصميمات كتب حملت توقيعه، مختصراً في الحروف الأساسية من اسمه Mab، كما وضع لها دار نشر متخيّلة Les éditions du pantoufle ضمن لعبة فنية ساخرة ثيمتها "حياة وموت الكتاب" كما يشير.
يهتم أحد الكتب التي يقدّمها التشكيلي التونسي بالحشرات التي تأكل الورق، والتي قد يحدث أن تبقى عالقة في الكتاب إذا تقادم وتموت فيه، مبقية أثرها عليه فتتحوّل إلى جزء منه. يقول بن رحومة: "هذه الحشرات أكلة الكتب كأنما تأكلها الكتب لاحقاً، وقد بدت لي مثل القارئ الذي يقرأ/ يأكل الكتاب وقد يضيع فيه".
يضيف بن رحومة: "تشغلني هذه الجوانب المادية في الكتاب؛ اصفرار الأوراق الذي يدلّ على القدم، الحبر وآثار التمزيق، وغير ذلك من العناصر المادية المحسوسة الذي تصنع للكتاب بعداً تشكيلياً وتجعل منه موضوعاً فنياً، بعيداً عن النص أو الأفكار التي يحتويها".
يختم قائلاً: "شغلتني دائماً تلك المفارقة التي يصنعها الكتاب، حيث يجمع في الآن بين بعدين؛ نهائي ولانهائي في الوقت نفسه، هو غرض يحمل مقاييس محددة من عدد صفحات وطول وعرض، وهو لا نهائي باعتبار محتواه وما يمكن أن يفتح عليه من تأويلات وقراءات وتوظيفات فنية".
نقطة خارج المركز
على غير عادة المعارض التشكيلية في تونس، التي تنحصر في وسط العاصمة وضواحيها الشمالية، فإن معرض "مع كتاب" يقام في "غاليري البيرو" في مدينة سوسة، ضمن استثناء يؤكّد مركزية العاصمة ثقافياً، في وقت تطلق فيه الدولة باستمرار شعار اللامركزية. يلفت وسام العابد إلى أن إطلاق "مدينة الثقافة" في العاصمة مؤخراً سيؤدّي إلى مزيد من اللامركزية حيث يبرز أكثر فأكثر التفاوت في البنية التحتية الثقافية بين العاصمة وبقية البلاد.