في روايته "راوي مرّاكش"، الصادرة مؤخّراً بترجمة عربية لـ علي عبد الأمير صالح عن سلسلة "إبداعات عالمية" في الكويت، يستلّ الروائي الهندي جويديب روي-باتاجاريا، خيطاً برّاقاً من أحد مجلّدات ألف ليلة وليلة، فينصب مسرح الوقائع في ساحة الفنا الشهيرة في مرّاكش -مدينة السحر في المؤلفات التاريخية والأدبية-، ويفردُ مثل الباعة الجوّالة فيها تفاصيل حكايته، ناسجاً على لسان حسّان الحكايةَ من أخرى في تتابعٍ تتراكب فيه الصور، وتصير الحقائق والبحث عنها ما يشبه تطريزاً على قماشٍ من لغز.
مرّاكش، بحدّ ذاتها، مكانٌ مثاليّ لولادة الأساطير، وفي ساحة جامع الفنا نفسها ما لا يُحصى من أعاجيب؛ المارّون بها والمقيمون فيها، بملامحهم ونظراتهم وملابسهم وأشغالهم وانتظاراتهم، يصلحون على نحوٍ بديع لصناعة لغز محكم في رواية. هذا ما صنعه روي-باتاجاريا في كتابه. جعل حسّان، يروي حكايةً –سيصير جزءاً منها فيما بعد- وهو مُحاط بأولئك الأشخاص الذين يملؤون عينيه بالمشاهد ويُلهمونه الخيال.
كان ذلك في ليلةٍ قبل بضع سنوات مضت عندما اختفى زوجان أجنبيان (امرأة فرنسية أميركية ورجل هندي) في تلك الساحة، ولم يعرف أحد قطّ حقيقة ما جرى لهما. كانت تلك السيّدة امرأة جميلة جداً، فتنت الجميع في الساحة، والرجلُ بسلوكه الغامض أثار انتباه المراقبين الفضوليين. مع ذلك يبدو اليوم أن لا أحد يتّفق مع أحدٍ حول الغموض الذي لا يزال يقبض على ملابسات اختفائهما.
أصبح حسّان، راوي الحكايات، يجمع المستمعين في الساحة كل عام ليتقاسم معهم ذكريات تلك الليلة، محاولاً من جديد استحضارها وحلّ اللغز. أناسٌ من كل ملّة وصوب، عرّافةٌ، بهلوانات، عازفو كناوة ومغنّون، مروّضو أفاع، بائعات قرويات، تجّارٌ بربر وطوارق، بعضهم يصف امرأةً شابّة رشيقة بزيٍّ مغربيّ تقليدي ومنديل على رأسها، وبعضهم الآخر يتذكّر سيّدة ببنطالٍ وقميصٍ مُوشّى. لكنهم يُجمِعون على نُذر سوءٍ يتطيّرون منها، في تلك الليلة المشؤومة: قمرٌ أحمرُ مريب، وبروقٌ حمراء أضاءت السماء.
مع كل حكاية تتناقض الأحداث وتتحوّر، تذوب في ضباب الذاكرة، ويصير للقصّة مناخٌ ملتبس، مثل مصيرها. يصبح حسّان، الذي يسعى لتبرئة أخيه مصطفى المسجون بتهمة تورّطه في "الجريمة"، صانع أساطير أو حتى جزءاً من لغز ربما يبحث عنه آخر. أخوه نفسه يترجّاه: "اجعل قصتي أسطورةً، يا حسّان، فأنت وحدك تستطيع ذلك".
في كثير من المواضع، قد تضع التقاطعات والاستطرادات صبر القارئ في اختبار، لكن استدعاء المكان برشاقة هو ما يؤجّج الرواية باستمرار؛ ساحة الفنا حيّة على نحوٍ قد لا تكون مثله كثير من الشخصيات. الوصف عند روي-باتاجاريا حادّ، يفيض بالتفاصيل، والرواية تتحرّك في المتاهة الصاخبة للمدينة القديمة، وتنفتح في أحيانٍ على أماكن أبعد، من جبال الأطلس، بين الغموض وقصة حبّ، وحتى الصحراء الشاسعة حيث تتآمر الريح والرمال لابتلاع الغُرباء الجوّالة.
"راوي مراكش" تقلب تقاليد الحكاية الملغزة، وتستقصي في الطبيعة الاستثنائية للحقيقة بوصفها شيئاً دائم التحوّل، وكأنها تقول لا يمكن إدراك أبعادها حتى وإن لُمست.
تُشكّل هذه الرواية جزءاً من ثلاثية للروائي الهندي صاحب "أنتيغون في قندهار"، إن جاز التعبير، تدور أحداثها في العالم الإسلامي، فالثانية "ملاك الضوء" تنتقل إلى إيران وتتحدّث عن التصوّف والخطّ والشعر الفارسي. والثالثة "مقهى جميل بغداد"، هي قيد الكتابة، تجري في العراق وتحكي عن الإرث الأدبي في عهد الخلافة.