لا تُذكر الحركة التشكيلية النسوية في المغرب من دون أن يُذكر اسم الشعيبية طلال (1929 – 2004) التي تُوصف برائدة "الفن الفطري" في البلاد. الفنّانة العصامية التي حقّقت لوحاتها انتشاراً وشهرةً عالميين، اكتشف موهبتها الناقد الفني الفرنسي بيير كودير والرسام الألماني فيرنر كيردت عام 1966.
في تلك السنة، أقامت معرضها الأول في مدينة الدار البيضاء، ثمّ سرعان ما تلته معارض أخرى في باريس وكوبنهاغن وفرانكفورت وإسبانيا وروتردام وجنيف وبلدان أخرى حول العالم.
بدأ كلّ شيء صدفةً، فالمرأة التي اضطّرت إلى أن تشتغل عاملة منازل، بعد وفاة زوجها، لتأمين عيش كريم ودراسة لائقة لابنها، اكتشفت الرسم من خلال أدواته المدرسية. أمّا حلمُها فأضفى على سيرتها بُعداً أسطورياً.
يتناقل المغاربة أنها رأت، في ما يراه النائم، سماء زرقاء وأشرعةً وأقلاماً، فقامت في اليوم الموالي مسرعةً واشترت دهاناً أزرق يُستخدم لطلاء الأبواب، وراحت ترسم بقعاً وخربشات. بعد قرابة شهر، حصلت، لأوّل مرّة، على لوحات وألوان مائية.
من هذه العوالم، يستوحي المخرج المغربي، يوسف برطيل، أحداث فيلمه السينمائي "الشعيبية"، الذي يصدر إلى قاعات العرض في المغرب ابتداءً من اليوم، محاولاً تسليط الضوء على محطّات من حياتها الشخصية وسيرتها الفنية.
لعلّ أهمّية العمل، وبعيداً عن مضامينه الفنية، تكمن في أنه يكسر صمتاً وتجاهلاً لفّا مسيرة فنّانة عصامية، لم تتعلّم القراءة والكتابة، ولم تطّلع على تيارات الفن التشكيلي ومدارسه، لكنها حملت ألوان المغرب وأجواءه وفنّه التشكيلي ورصيده الثقافي إلى العالم. يُضاف إلى ذلك غيابٌ لافت للأسماء والرموز الوطنية في مختلف المجالات عن السينما المغربية.
يُعتبر العمل باكورة الأفلام الطويلة للمخرج الشاب، الذي سبق وأنجز عشرة أفلام سينمائية قصيرة. في تصريحات سابقة، يقول بريطل إنه فكّر في عددٍ من الشخصيات المغربية لتكون محور فيلم بيوغرافي؛ لكن خياره استقرّ على الشعيبية بالصدفة.
استوحى المخرج موضوع العمل من رسومات ابنته الصغيرة. يقول: "الصلة الذهنية التي ربطتُها بين رسومات الطفلة وسيرة الشعيبية تكمن في أن الأخيرة ظلت تُبدع لوحاتها دائماً من وحي طفولتها. لقد بقيت طفلة تمارس شغبها وتكتب ذاكرتها في اللوحة".
لتحويل الفكرة إلى فيلم، كان على بريطل أن يخوض رحلةً من البحث والتوثيق وجمع الشهادات حول الفنّانة. هنا اكتشف أن "التشكيلية العصامية الكبيرة، لم تجد مكاناً لها على صورة مجلّة مغربية واحدة، حتى من باب الوفاء لذكراها. حتى اللقاءات المصوّرة القليلة تعاملت معها باستصغار، من منطلق أنها ساذجة، لا تحسن التعبير بالفصحى".
إلى جانب شهادات فنّانين معاصرين وأشخاص عرفوا الشعيبية عن قرب، استعان المخرج بشهادات ابنها الفنان التشكيلي الحسين طلال، وأيضاً الكاتبة الفرنسية سيريس فرانكو التي لعبت دوراً كبيراً في مسيرة الفنانة؛ إذ كانت أوّل من كتب تقديماً لأعمالها، وفتحت لها فضاءات العرض في أوروبا.
تتوزّع أماكن الفيلم بين الرباط والدار البيضاء وبرشيد ومرّاكش في المغرب، وفرنسا. يبدأ العمل سنة 2029، في الذكرى المئوية لميلادها، في بيت أسرة مغربية تحتفظ بلوحات الشعيبية التي تشكّل مصدر إلهام لطفلة صغيرة ترسم على الأوراق، قبل أن يعود إلى سنة ميلادها، ويتتبّع مسيرتها؛ زواجها في سن الثالثة عشرة، ترمّلها، ثم وصولها إلى ذروتها الفنية عام 1986.
كما يسلّط الضوء على اثنين من روّاد الحركة التشكيلية المعاصرة في المغرب، الجيلالي الغرباوي ومحمد الشرقاوي، اللذين ربطتهما علاقة صداقة مع الشعيبية.
يشارك في العمل مجموعة من الممثّلين المغاربة؛ من بينهم: محمد خيي ولطيفة أحرار وإدريس الروخ ويونس ميكري ومحمد نظيف، بينما أُسند دور الشعيبية في مرحلة النضج إلى الممثّلة السعدية أزكون.
يؤكّد المخرج أنه لا يعد برائعة سينمائية، بل فقط بعمل "يمس إحساس الجمهور ويرحل به إلى أماكن من ذاكرته الجماعية، من خلال فيلم لا يطغى فيه التاريخي على العنصر الدرامي الجمالي". لعّل "الشعيبية" سيكشف كم تأخّرت السينما المغربية في الالتفات إلى سيرة حياة إنسانية وفنية زاخرة بالمنعطفات والتجارب.
اقرأ أيضاً: ثلاث نظرات إلى حديقة الجيلالي الغرباوي