ينظر المعماري الأردني الفلسطيني راسم بدران إلى المدينة العربية في الراهن والمعيش، فيراها المدينة التي "عجزت عن توفير فضاءات روحية للناس، تربطهم بماضيهم، وتستوعب حاضرهم بأمومة، وتتطلع معهم إلى المستقبل بعيداً عن أي زعيق بصري".
أما عمّان فهي مجرّد "فوضى غير مبرمجة"، يقول بدران في حديثه إلى "العربي الجديد"، باستثناء بعض الحالات النادرة، التي كانت تبحث عن ملامح منزل محتل في القدس أو في بيت لحم عبر مسكن جديد في المدينة الجديدة. ويضيف بدران "أحببت المدينة عندما جئت إليها أول مرة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان ثمة نوع من الألفة بين المدينة الجبلية ومساكنها البسيطة؛ فلم يقم أحد، وقتئذ بجرح الجبل، أو "بتر" جزء منه، بل كان ثمة تآلف وتعايش بين تضاريس المدينة ومساكنها".
"كنّا نعمل وفق مبدأ تعدد المناسيب" يضيف؛ "المبدأ الذي كانت بدايته مع المعماري الراحل جعفر طوقان"، والذي اشترك معه بدران في تصميم مبنى "أمانة عمّان". يرى بدران، المولود في القدس عام 1945، أن عمّان الآن ليس لها هوية عمرانية، بل هي موقع للتجارب التي تهدف إلى استعراض ذات المعماري: "أحياناً أتساءل وأنا أتجوّل في المدينة: بماذا كان يفكر المعماري عندما صمّم هذا البناء أو ذاك؟ وهل فكّر في التأثير المتبادل بين مبناه ومحيطه الاجتماعي والجمالي؟ غالباً لا أجد إجابة سوى رغبة منه في أن يقول: أنا هنا".
عمّان، في نظر بدران الفنان والمعماري، ليست مدينة منسجمة المعمار، "بناياتها الجديدة لا تحترم خصوصيتها الجغرافية، ثمة جبال كاملة تُزال لصالح بناء لا يمتلك لغة تواصل مع البناء الذي يجاوره. ثمة أبنية جميلة هنا أو هناك، لكن لا علاقة بينها، لا وجود لقصة مشتركة تروي ذكريات الناس وتغازل أحلامهم. ثمة فردانية أدّت إلى فوضى بصرية عميمة وصراخ".
الحكم الجمالي على الأشياء وتناسقها في المكان، ليس مستغرباً من بدران الذي نشأ في كنف أب فنان. يستعيد بدران طفولته في محترف والده الفنان الفلسطيني جمال بدران (1909 - 1999)، الذي درس الفن في لندن في ثلاثينيات القرن الماضي: "والدي كان فناناً متعدداً، ينحت ويرسم ويتقن الكثير من الحِرف اليدوية. محترفه في حي "بطن الهوى" في رام الله كان بيتاً عثمانياً قديماً، حيث كان يحوّل الفنّ فيه إلى حياة. وأثناء تدريسه للفنّ في الكلية العربية والمدرسة الرشيدية والمدرسة البكرية في القدس، درّس نخبة من المثقفين العرب مثل الراحلَين: جبرا إبراهيم جبرا وناصر الدين الأسد".
أمّا الاشتباك الأول للمعماري والأكاديمي مع العمارة، فكان من خلال الفن التشكيلي. رسم أولى لوحاته وهو في الرابعة من عمره بالألوان المائية، بتشجيع من والده بطبيعة الحال، الذي أتاح للفنان الصغير فرصة مراقبته عن كثب في أول الأمر، ثم أدخله في تجربة الرسم ومعايشتها بشكل مباشر مع بعض الإرشادات التقنية بين حين وآخر.
وحين أصبح في الثانية عشرة حصل على أول جائزة في حياته عن عمل فني، وذلك عن مشاركته في مسابقة عالمية في الهند. وبالطريقة نفسها أصبحت ابنة بدران فنانة تشكيلية، وأصبحت حفيدته علا مصممة، والحفيد جمال يشتغل في العمارة والموسيقى.
مخطط لراسم بدران
|
أولى تجارب بدران مع العمارة على أرض الواقع كانت سنة 1972 في مدينة بون الألمانية، حيث درس العمارة في "دار مشتادت"، هناك صمّم وحدات "إيليمنتا" السكنية. كما كان العمل في الملاعب الأولمبية في ميونيخ من أهم محطات البداية في سيرة راسم بدران (الصورة) حيث اشتغل فيها كألماني وتعامل مع الفراغ الغربي بأنساقه المعرفية ومنظوره الجمالي، معتبراً أن ذلك جزء من مهمته المعمارية في البحث عن ذكاء المكان وتجسّده في الحيّز المادي.
من هنا، يكون العمل المعماري، بالنسبة لبدران، تحليل منهجي أدواته موجودة في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلوم الطبيعة وتاريخ الفن. والآن تنتشر المباني التي نفذها في بلاد عربية مختلفة ومن أبرزها مبانٍ سكنية في وادي بو جميل في بيروت، و"جامع الدولة الكبير" في بغداد و"حي فوهايس" و"مبنى حنظل" في عمّان.
في منتصف التسعينيات، حصل بدران على "جائزة الآغا خان للعمارة الإسلامية" عن إنجازه لمشروع "جامع الرياض الكبير" في العاصمة السعودية، وهو المشروع الذي يجسّد رؤيته للعمارة، إذ ثمة طرح جمالي لسؤال الهوية عبر المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، عن ذلك يقول بدران: "بناء المنشآت ذات الصفة العامة تعطيك فرصة لفهم المدينة، وقد حرصتُ على تصميم الجامع والقصر وفق رؤية تحترم الإرث الاجتماعي والتاريخي للمدينة وأهلها، وحاجات الناس، إذ رغبتُ أن يقول أهل المدينة عند رؤيته: هذا البناء يذكّرنا ببيوت آبائنا أو بيوت أجدادنا".
لكن هذا لا يعني أن بدران ماضوي أو تراثي فقط في نظرته إلى المعمار، بل ربما تكون ميزته المعمارية قدرته على نسج الماضي والحاضر والمستقبل في قطعة واحدة، فالقاعدة لديه أن يبني ضمن السياق، لا يجتث منه ولا يتناقض معه ولا ينفر منه، بل يأتي مستقبل المدينة استكمالاً للسياق وامتداداً طبيعياً لجمالياته، القديمة والراهنة، واحتراماً لخصوصيته وتاريخه.
هذا الأداء المعماري لبدران متأتٍ من إيمانه بأن "العمارة مجتمع متجانس متآخٍ وليست مجرّد أبنية متناحرة في ما بينها. العمارة: أين أنت ومن أنت، عبر إضفاء بعد إنساني وحضاري على المكان".