بسقوط الزعيم أحمد عرابي (1841- 1911) سقطت مصر في قبضة الاحتلال البريطاني، وهو الذي قاومه بشراسة، فقد استدعى القصر الإنكليز لمواجهة المصريين، حين هاله أن يقف أحد الفلاحين على رأس المقاومة مطالباً بـ"حقوق البلاد والعباد". كَثُرت السكاكين الحادة حول جثة الثورة العُرابية استرضاء للاستبداد وشريكه المُحتل الغاصب، وكثر الناهشون المتربّصون والمضلَّلون في سيرة عرابي؛ يلتقطون أخطاءَه ويعظّمونها، ويفترون عليه ما لم يرتكبه.
أما عرابي نفسه فكان مؤمناً بما أقدم عليه، غير نادمٍ على ما ساقه إليه ضميره، بالرغم من يأسه من أن تتضح الصورة لدى أبناء جيله الغافلين، مع اقتناعه بأنْ سيكون هناك من يدافع عنه من شباب الجيل القادم الذي لم يفسده الاحتلال.
وقد صدق هذا التوقّع في شخص الكاتب محمود الخفيف (1909-1961) الذي هاله أنه ما ذَكر مجلساً تطرّق فيه الحديث لعرابي إلا وسرت في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن إلى الهُزء به، وتعديد مساوئه، وإبراز مثالبه.
ومع ذلك يرى الخفيفُ أنّه "قلّ أن نجد في رجالنا رجلاً ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسناتُ عُرابي في ما افتُرِيَ عليه من سيئات"، كذلك "قلّ أن نجد في رجالنا رجلاً كَرِهَهُ أكثر بني قومِه مُضلَّلين واستنكروا أعماله جاهلين، بقدر ما كره هؤلاء (عُرابياً)، واستنكروا ما فعل، وما أسند إليه من الأعمالِ زوراً وإفكاً".
بدأ الخفيف يكتب عن "الزعيم الفلاح" في مجلة "الرسالة"، واسعة الانتشار، في مارس /آذار 1939؛ فوجد ردود أفعال طيبة لما يكتب، وتواصل معه أبناء عرابي بعد أن نشر عدة حلقات، وسلّموه مذكرات أبيهم وكثيراً من رسائله ووثائقه التي أتيحت لهم.
غير أن موت الزعيم منذ عشرين سنة سبقت لم يكن لينسي السلطة مرارة وقوفه في مواجهتها مطالباً بالحق والعدل والحرية؛ فسعى الإنكليز والقصر معاً لإيقاف مجلة "الرسالة" نقمة على ما ينشر من تصحيح الأفكار الفاسدة والانطباعات التي اجتهدوا في ترسيخها، غير أن ذلك السعي لم يُثن الخفيف عن مواصلة عمله؛ فأتم كتابه في 1947، ونشره تحت عنوان "أحمد عرابي... الزعيم المفترى عليه".
يقول المؤلف: "ما كان عرابي في ما أعتقد إلا طالب حقٍّ، يلحق به في طلب الحق الخطأ والصواب كما يلحق بغيره، ولعلي استطعت أن أجلو ذلك في سيرته، بقدر ما وصلتُ إليه من الأدلة في تلك السيرة التي بالغ كثيرٌ من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها".
يحاول الكتاب إثبات أن أحمد عرابي كان زعيم القومية المصرية الأول، وكان الفلاح المصري الأول الذي دعا إلى حرية قومه، وحارب في سبيلها، ونفي، وذاق ألم الفاقة والحرمان من أجل وطنه، وكان صاحب الصيحة الأولى، وصاحب الخطوة البكر في سبيل الكرامة القومية والنهوض بمصر على أساس الدستور والحرية.
يقع الكتاب في ثمانية وثلاثين فصلاً؛ تبدأ بميلاد عرابي وتنتهي برحيله، وتتوقف بالتفصيل والتحليل لأهم الأحداث التي كان عرابي بطلها؛ ثورة وحرباً ونفياً. ومن أبرزها وقفته في قصر عابدين وسط جيشه، وبمباركة الشعب، أمام الخديوي توفيق المتحصّن بالمستعمرين، ومطالبه العادلة؛ ومنها: إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية.
وكيف كان رد الخديوي قائلاً: "كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا". فيرد عليه عرابي: "لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورّث ولا نستعبد بعد اليوم". وهو المشهد الذي يؤرق الاستبداد في كل عَصر ومِصر، فيجند له من "مثقفيه" المقربين ومؤرخيه المتحيزين من يعيبه أو ينفيه، وينتقص قدر أبطاله تشويهاً وتكذيباً.