أعاد خبر تكريم جابر عصفور (1944)، وزير الثقافة الأسبق، من قبل "المركز القومي للترجمة"، مؤخراً، الجدل مجدّداً، حول مسيرة الرجل الذي ظلّ يوصف بـ "التنويري والمثقف النقدي" حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أن يُربك الجميع بمواقف وقرارات يمكن وصفها بـ "خيانة فكره النقدي".
في الواقع إن أزمة عصفور سابقة لهذا التاريخ، فالرجل ظلّ لصيقاً بالسلطة، ولا سيما على مستوى وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني، ولم يوفّر جهداً للدفاع عن قرارات وتصريحات الأخير بما فيها زعمه "إدخال المثقفين في حظيرة السلطة"، بل تمادى في الدفاع عن استضافة قائد الأوركسترا الإسرائيلي دانييل بارينبويم في "دار الأوبرا المصرية" عام 2009، منهياً بذلك تاريخاً من "مقاطعة المثقفين المصريين" لأيّ أنشطة ذات صلة بالكيان الإسرائيلي، ومدشّناً مسيرة "التطبيع الثقافي" في ثلاث مقالات متتابعة نشرها آنذاك في "الأهرام".
أما شغف عصفور بالجوائز والتكريمات فقديم، قبل ثورة 2011 ببضعة أشهر، كان نظام معمر القذافي، قد رصد مبلغاً مالياً لـ "منحة" تحمل اسم العقيد وتقدّم إلى أحد المثقفين، وسقطت لجنة "المنحة"، في فخ اقتراح أسماء تنويرية بالفعل، كالكاتب الإسباني خوان غويتسولو، الذي رفض "الجائزة"، مؤكداً أن "قناعاته ومواقفه المناصرة لقضايا العدل ومناهضة الأنظمة الاستبدادية تحتّم عليه رفضها"، ثم اهتدت اللجنة إلى اقتراح اسم الجنوب أفريقي برايتن برايتنباخ الذي اتّخذ نفس الموقف الرافض لجائزة "الديكتاتور"، فلم يبق إلا البحث عن "مثقف" يركض خلف الجوائز، ولم يكن ذلك سوى عصفور، الذي أعرب عن امتنانه لنيل 150 ألف يورو.
لا يمكن استحضار مسيرة عصفور من دون الوقوف مطوّلاً أمام "اللحظة التاريخية" التي أسقطت كثيراً من الأصنام، السياسية والثقافية والفكرية، فبينما حبست شعوب العالم أنفاسها أمام ما يجري في ميدان التحرير في يناير 2011، بدا عصفور الذي يقع مكتبه على بعد بضع مئات من الأمتار من الميدان الصاخب، في "عزلة تامة"، باستثناء تدخّلين أجراهما مع برامج تلفزيونية، طرح فيهما ما يوحي بأن الوقت قد حان للاعتماد عليه في المنصب الأول في الوزارة التي يعمل بها. وفي حين شاهد كل العالم تداعي النظام وأيلولته للسقوط تماماً، كان "المثقف النقدي" يشيّد قصة "صعوده" على أكتاف ما يجري في التحرير، وهكذا قبِل في ليلة 28 كانون الثاني/ يناير أن يُقسم أمام مبارك، ليصبح آخر وزير لنظامه، الذي سقط بعد بضعة أيام.
عصفور الذي خرج من الباب الضيق، حين برّر استقالته بـ "ظروف صحية" عشيّة تنحي مبارك، لم يركن جانباً إلى إعادة تقييم قراراته الصادمة بل ظل يتحيّن اللحظة للعودة عبر النافذة، وكان له ما أراد في حكومة محلب بعد أكثر من عامين من الانتظار، لكن بقاءه في المنصب ذاته لم يستغرق أكثر من سنوات الانتظار نفسها، حيث خرج مرة أخرى من ذات الباب مُقالاً، لكن يبدو أنه ما زال شغوفاً بالتكريم والجوائز.