عبد الحي الملاخ.. علامات الذاكرة المغربية

30 نوفمبر 2014
مقطع من إحدى لوحات المعرض
+ الخط -

اعتبرت "مجموعة الدار البيضاء"، أو "جماعة 65"، التي كانت تضم، إلى جانب الفنانَين الراحليْن فريد بلكاهية ومحمد شبعة، كل من محمد المليحي ومحمد حميدي ومحمد حفيظ، إضافة إلى الناقدة الإيطالية طوني ماريني ومجمّع الفن الهولندي بيرت فلينت، موجة انقلابية في مسار الفن التشكيلي المغربي.

ذلك أن هذه المجموعة، بمجرد تحمّلها مسؤولية تدبير شؤون "مدرسة الفنون الجميلة" في مدينة الدار البيضاء، منذ مطلع سنة 1962، خلفاً للطاقم الفرنسي المؤسس، سارعت إلى تبنّي خطاب تربوي ـ تعليمي يزاوج بين الفني ـ الجمالي والأيديولوجي ـ السياسي، على خلفية ترسيخ ممارسة فنية مغربية أصيلة تقطع مع ما كان معتمداً في الفترة الاستعمارية من أساليب فنية تتكئ على التراث الغربي الروماني.

من هنا كانت الدعوة إلى تبنّي أسلوب فني يعلي من شأن الموروث الثقافي المغربي، الذي تتقاطع فيه الموتيفات الحضرية والقروية المحلية، مع ما ورثته من أشكال جمالية أفريقية وعربية، وما صاحب ذلك من دعوات إلى إخراج العمل الفني من القاعات المخملية إلى رحابة الشارع وإشراك عموم الجمهور في تلقي اللوحة التشكيلية، مثلما حدث في المعرض الذي أقامه بعض أفراد هذه الجماعة في الهواء الطلق، في ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش عام 1969.

وعلى الرغم من أن تداعيات هذه الموجة، الداعية إلى الاكتفاء بما هو محلي صرف، لم تلق النجاح المأمول، إلا أنها ساهمت، رغم ذلك، في تنشيط النقاش الذي بدأت بوادره تطفو على السطح، حول حاضر ومستقبل الممارسة الفنية في المغرب، وما يقتضيه ذلك من إعادة قراءة وتمثّل الفعل الفني، كأفق ينبغي أن يبقى مرتبطاً بانشغالات الجماهير الشعبية.

ولئن بدا واضحاً، بعد هذه المرحلة، أن هذه الدعوة أصبحت مجرد ذكرى في عهدة التاريخ، إلا أن جيلاً آخر من الفنانين اللاحقين سرعان ما تبنى هذا الطموح الرامي إلى ابتكار أعمال تعمد إلى توظيف التراث الثقافي المحلي، بما هو استثمار للتقاليد والمعتقدات الشعبية الشفاهية، أو للأشكال الهندسية التي توظَّف في مجال حياكة الزرابي (السجّاد) والتطريز والوشم وغيرها، في محاولة لحيازة لمسة فنية مغربية خاصة.

يتجلّى هذا الطموح بقوة في تجربة الفنان المراكشي عبد الحي الملاخ (1947) الذي راهن، منذ بداية مسيرته الفنية، على استثمار ما تجود به الذاكرة الشعبية المغربية من علامات وحكايات وقصص خيالية، غالباً ما كانت تنحو منحى خرافي يقترب من الغيبي ـ الميتافيزيقي أكثر من انتمائه إلى ما هو واقعي.

وفي هذا السياق، تأخذ القصة الطريفة التي وقعت لهذا الفنان في طفولته كل معناها؛ إذ يحكي أنه حين كان تلميذاً في مدرسة "الباشا" في مدينة مراكش، أراد مرة أن يُدخل حقيبته في مكانها داخل المقعد، فإذا بشيء ما يحول دون ذلك. وحين تحسس الموضع، وقعت يده على علبة ألوان كبيرة موضوعة في الداخل، ما اعتبره هدية من السماء، وبالتالي دعوة إلى امتهان الرسم.

هذه القصة، إلى جانب قصص أخرى كثيرة مشابهة، تحتفظ بها ذاكرة الفنان وتفسّر ميله إلى كل ما هو غيبي أو صوفي أو مقدّس، وعلاقة ذلك بممارسته الفنية، أو بالأحرى بالموضوعات التي يختارها كموتيفات للوحته.

هكذا، نجده دائماً مشغولاً في توظيف الكف المبسوطة مقابل رسمة العين، بما هي رقية لاتقاء الأرواح الشريرة، أو أشكال الجنين والمثلث والنخيل، بما تحمله من دلالات تحيل إلى الخصب والامتداد والحياة، أو رسم الحمامة، الطائر الوديع والنبيل، حامل الأسرار والحافظ لها (قصة النبي محمد وغار حراء)؛ وكلها عناصر وعلامات يحاول الفنان، في كل مرة، أن يمنحها تارةً بعداً صوفياً ومقدساً، وتارةً معنى لصيقاً بالمعتقد الشعبي البسيط والساذج، مقابل تلك التداعيات، الحرة أو الناضجة والواعية، التي يستند عليها بعض الفنانين المحدثين في أعمالهم الصباغية.

هذا ما يظهر بقوة في معرضه "عين البهاء"، الذي يقيمه "الرواق الوطني - باب الرواح"، في الرباط، ويستمر حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر المقبل. ففي الأعمال المعروضة، نقف على ذلك الإصرار القديم ـ المتجدد على مقاومة بياض اللوحة، ومجابهة الفراغ وما يمثّله من فناء، من خلال استحضار وتوظيف ممكنات الألوان بطريقة خاصة.

ألوان تحضر على شكل تدرّجات حارة ومتنوعة تغطي كل مساحة اللوحة، ما يؤشّر إلى حالة وجدانية تستثمر في فعل التطهير وإشباع النفس القلقة، أو على شكل طبقات متراكمة أو متراكبة، بما ينسجم مع الأشكال والعلامات التي يعمد الملاخ إلى إسقاطها على سطح السند، بأسلوب تغلب عليه تلك اللمسة التعبيرية الواضحة، التي يحاول من خلالها ملامسة روح التجريد في أبسط تجلياته.

وسواء تعلق الأمر هنا بحالة وعي ناضجة، أو بمجرّد استسلام لنوبة وجدانية تقترب من الشطح الصوفي إلى درجة الارتقاء والاستسلام، يظلّ الفنان عبد الحي الملاخ وفياً لتداعيات "طريقته"؛ إن في استدعاء دوالٍ تنتمي إلى عالم السحري والغيبي في امتداداتهما الشعبية، أو في توظيف التدرجات اللونية، كما هو متعارف عليها في حالة طقوس موسيقى "كْنَاوَة" الأفريقية، بإيقاعاتها الروحية والسحرية، ما يمنح عمله الفني طابعاً فريداً، يظل، في العمق، استجابة لهواجس نفسية غامضة وقلقة.

المساهمون