مثّلت سنوات السجن التي عاشها عبد القادر الجزائري (1808 – 1883) في قصر أمبواز وسط فرنسا، لحظة مثيرة للبحث والاستقصاء التاريخيين، أولاً لما تكتنزه من أسرار حول العلاقات بين المستعمر والمسنعمر، وخصوصاً لجمعها بيم متناقضات المعاملة السيئة للأمير ثم صداقته المتينة مع الإمبراطور نابليون الثالث.
ثمة زاوية جديدة باتت تقدّم رؤية مختلف عن هذا الفصل التاريخي، وهي تلك الهوية المزدوجة لجزائريين ولدوا في فرنسا، وهو حال المخرج عادل عبد الحفيظي صاحب الفيلم الوثائقي "الأمير عبد القادر في أمبواز: الأسير المحبوب" (2015) الذي يعرض مساء اليوم ويناقش في "المركز الثقافي الجزائري" في باريس. هذه الهوية المزدوجة نجدها في شهادات مشاركين في الفيلم من مؤرخين ورجال دولة من اوصول جزائرية يمثّلون اليوم شخصيات بارزة في فرنسا.
ينطلق العمل من سؤال "لماذا الجزائر؟" كاشفاً أن فكرة استعمار الجزائر كانت فكرة نابعة من لحظة ضعف الطرفين؛ فرنسا إثر التجاذبات السياسية بعد الثورة، والجزائر التي نخر دولتها الفساد. الفارق كان في رية الحل، حيث أن الفرنسيين فكّروا منذ نابليون في تحويل المتوسط إلى بحيرة فرنسية لحل أزمتهم فيما التفت دايات (ولاة) الجزائر إلى إرهاق شعبهم بالضرائب، وفي الأخير ابتلعوا طُعم المساعدة الفرنسية التي فاقمت المديونية ودمّرت استقلاليتهم في ما بعد.
هذه المقدّمة، تساهم في تفسير موقع الأمير عبد القادر الذي لم يكن قريباً من البلاط وهذه اللعبة السياسية، وبالتالي فإن الحركة التي قادها في مواجهة الفرنسيين كانت حركة مقاومة عفوية ستكون أبرز صد أمام الغزاة.
بالعودة إلى الصحافة الفرنسية لتلك الفترة، يكشف العمل أن الرأي العام الفرنسي كان أقرب إلى الحديث عن بطولة عبد القادر. من جهة، كان ذلك موقف المعارضين لاستعمار الجزائر، ثم سرعان ما وجدت فيه الأنظمة أنه يمثل تبريراً لتأخر إعطاء الشعب الفرنسي النتائج التي وُعد بها من عملية الاستعمار.
بعد ذلك، يضيء حيثيات أسره حيث تفاوض مع الفرنسيين حين اكتشف محدودية قدرات، "رافضا انتحار شعبه" كما يقول الراوي في الفيلم (وهو عبد الحفيظي نفسه)، ليتفق عبد القادر مع الفرنسيين على الذهاب إلى الشرق غير أن السفينة التي خصّصت لذلك نقلته إلى شواطئ فرنسا حيث جرى سجنه أولاً في تولون ثم جرى نقله إلى قصر أمبواز.
هنا، ينتقل التركيز إلى تفاصيل حياته في أمبواز، حيث لا يكتفي المخرج بقراءات المؤرخين، وإنما يستدعي شهادات أطباء ومعماريين وروائيين وموثقين لآراء أهل المكان، ليكشف أن داخل جدران القصر كانت هناك حرب نفسية، وصحية، تدور ضد الأمير.
من جهة أخرى، يسلّط العمل الضوء على ممارسة الأمير الشعائر الدينية في أمبواز، ويؤكد أنه لم يتعرّض إلى أي تضييق في هذا الاتجاه، رابطاً ذلك بأن الإسلام كان مهاباً في فرنسا القرن التاسع عشر، وأنه لم تكن ثمة وقتها عدوانية تجاهه، وأن الأمير كانت محبوباً جداً من قبل سكان المنطقة التي أسر فيها.
ينتهي العمل بالحديث عن الصداقة التي جمعت بين نابليون الثالث والأمير عبد القادر، والتي أسفرت عن الإفراج عنه بالعودة إلى الاتفاق القديم بالسماح له للذهاب إلى الشرق، حيث توفي في دمشق.