بدأ النشاط الثقافي والفنّي الفلسطيني، وخاصة في المخيّمات الفلسطينية، يتخذ طابعاً متجدّداً، وينتقل من ظلال نشر المطبوعات الورقية وإلقاء محاضرات نخبوية على عدد قليل من الناس وحضور مهرجانات لا يعرف عنها الفلسطيني شيئاً، إلى وسائط إعلامية ذات طابع اجتماعي يتوسّع ويتمدّد كما تتسع وتتمدّد الأمواج المائية والصوتية على حد سواء.
الوسائل المعنية بهذا هي ما تدعى وسائل التواصل الاجتماعي، ودخول مثقفين وفنانين على خط فنون بصرية لم تكن موضع عناية لافتة للنظر، مثل تصويرٍ فوتوغرافي يتحوّل على يد عدد من الفنانين إلى ما يشبه "ضربات فرشاة" الرسام والملِّون على حد تعبير الفنان كمال بُلاّطه، وإقامة تركيبات جامعة بين النحت والتشكيل وأفلام الفيديو، وعروض مسرحية بأسلوب ما يدعى المسرح المفتوح.
وفي ضوء جردة، ولو سريعة لما أصاب المخيّمات الفلسطينية طوال السنة الماضية على الأقل، من تدمير ومحو في أكثر من بلد عربي، ليس آخره ما بدأت تشهده مخيمات مثل "عين الحلوة" و"المية مية" في لبنان في الأشهر القليلة الماضية، يتبادر إلى الذهن سؤال من شقّين:
الأول ما الذي جعل فلسطين على امتداد أكثر من سبعين عاماً من احتلالها حيّة وفاعلة ثقافياً وفنياً وسياسياً في الوسط الفلسطيني أولاً وفي الوسط العربي ثانياً، وعلى صعيد عالم بدأ يستيقظ من سبات أوقعه فيه المشعوذ الاستعماري/الصهيوني ثالثاً؟ والثاني، لماذا يتواصل ويتنقل هذا النهج التدميري للمخيمات الفلسطينية بأسلوب واحد لا يتغيّر؛ تدمير المساكن وتشريد اللاجئين، حتى مع توقّف المخيّمات في البلدان العربية عن لعب دور خزان الطاقة البشرية لمدّ المقاومة بالمقاتلين في بلدان المحيط العربي، وحصارها حصاراً خانقاً في فلسطين المحتلة ذاتها؟
هذا السؤال بشقّيه، يشير ضمنياً إلى مفارقة، فهو يلاحظ ما يشبه حرب محو وإبادة لكل ما هو مخيم فلسطيني، أو ما يطلق عليه هكذا، من جهة، ويلاحظ أن فلسطين تستعصي على الموت والمحو والفناء وسط ظروف ساحقة تحيط بما يقارب 13 مليون إنسان فلسطيني في فلسطين وخارجها من جهة أخرى.
ولفهم هذه المفارقة، أو حلّها بالأحرى، علينا أن نختصر ونترك التدمير وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطيني منذ أكثر من قرن جانباً لأنها في الوقت الذي تشير فيه إلى وقائع مأساوية لا تجيب على السؤال الجوهري: لماذا ظلّت فلسطين حيّة حتى اليوم بدليل حضورها الفاعل إنسانياً وثقافياً وفنياً وسياسياً؟
هي لم تبق حيّة بسبب هذه المآسي بالطبع، بل وتجعل مقولة نيتشه: الضربة التي لا تقتلني تجعلني أقوى، خالية من المعنى، لأن ضربة أولى لا تقتل شعباً يمكن أن تقوده إلى الهلاك ضربة ثانية حتى لو استعاد شيئاً من قوته كما يجاهد الغريق ويستعيد شيئاً من أنفاسه قبل أن تسحبه لجّة إلى قرارها.
ما أبقى فلسطين حيّة وظل بعيداً تقريباً عن وعي غالبية مثقفيها، شعراء وفنانين وكتاباً وخطباء، سبب بسيطٌ جداً، وربما غاب عن الأذهان بسبب بساطته هذه؛ وهو أن العائلة الفلسطينية لم تنتظر مثقفيها وساستها، وكل من سيزعم تمثيلها، لتطلق عملية يسميها علماء الاجتماع "بناء ذاكرة" في مواقع اجتماعية توصف بأنها مكان اجتماع يضم أفراداً مترابطين من حيث اللغة والموطن والذكريات.
الجواب هو لدى علماء الاجتماع إذاً، وهم أكثر الكفاءات تعرضاً للتهميش في الوطن العربي، ولهذا لم يسألهم لا الكاتب ولا الشاعر ولا السياسي ولا الفنان، وظلّ بقاء فلسطين في نظرهم نوعاً من أعجوبة أو معجزة يمجّدونها ولكن من دون معرفة سرّها.
هذه العائلة الفلسطينية، ببُنيتها (الجامعة بين الآباء والأبناء والأحفاد والأجداد) ومكان تجمّعها (المخيم) وذكرياتها عن الوطن المفقود والخسائر التي نجمت عن نكبته (رواة سهراتها وتجمعاتها)، هي من منح فلسطين قدرتها على الحياة، وهي هدف الحرب على المخيمات، والغاية تدميرها وتشتيت أفرادها، أو تدمير المجتمعات الفلسطينية بشكل عام.
ولفهم ذلك علينا أن نعرف أنه ظهر في أوساط العائلات الفلسطينية منذ الأيام الأولى التي أعقبت النكبة من تسميهم أستاذة علم الاجتماع أناهيد الحردان في كتابها "الفلسطينيون في سورية"، حرّاس الذاكرة، وكانوا من النساء والرجال الذين شهدوا أيام فلسطين قبل النكبة وبعدها.
إنهم من تسميهم جيل فلسطين، الذي نجا ليتذكر، ويقصّ ذكرياته على مسامع أبنائه وأحفاده، فتنتقل إلى أجيال فلسطين اللاحقة، الثاني والثالث، بكل ما تحمل قصصه من أساليب وموضوعات قصٍّ نسائية (أغاني المهد، والقصص الشعبية، والعمل في الحقول)، وما تحمل من أساليب ذكورية (قصص البطولات وأيام البلاد ومرارة الفقدان).
وقبل هؤلاء، وفي وقت مبكر أيضاً، وقبل أن يظهر مؤلفو روايات فلسطينية، ظهر من يمكن تسميتهم بأوائل الرواة الفلسطينيين، وكانوا فلاحين متوسّطي الثقافة وبعضهم تعلّم القراءة والكتابة فقط قبل أن يغادر المدرسة ليرعى قطيع غنم أهله أو ليعمل مع أبيه في زراعة أرضه.
هؤلاء وأمثالهم اعتادوا الانسلال من المخيّمات وعبور الحدود المحروسة عربياً قبل أن يتمكّن المحتلون الصهاينة من ترتيب أمورهم، والعودة خفية إلى قراهم أو إلى جوارها. وهناك كانوا يلتقون بمن ظل مقيماً من أهل أو أقارب أو معارف فيقصون، حين يُسألون عن أنباء اللاجئين منهم إلى البلدان العربية، أخبار ومصائر سكان المخيمات، وبعد عودتهم ينقلون ما عرفوه وسمعوه إلى هؤلاء.
صحيح، لم تسجل هذه الروايات، شأنها شأن ذكريات حرّاس الذاكرة آنذاك، ولكن تم تناقلها بين مجتمعات اللاجئين المتباعدة، وتم نقلها بكل حرارتها وصورها الواقعية والمتخيلة إلى أجيال فلسطين اللاحقة.
هؤلاء الرواة وهؤلاء الحرّاس هم من تنقضّ على تجمعاتهم وتعمل فيها تدميراً وقتلا وتشريداً آلات حرب شرسة متنوعة الأقنعة، إلا أن غايتها تكشف عمّن يقف وراءها ويمدّها بالمال والسلاح وأجهزة التواصل، إنه المستعمر الصهيوني صاحب المصلحة التي تظل ذاكرة الفلسطيني الحيّة سيف "ديموقليدس" المسلط فوق رأسه.